& يوسف الديني

&«بيننا وبينكم يوم الجنائز» هذه العبارة المأثورة في تراثنا العربي والإسلامي، ظلت تُستدعى في ذهنية الإسلام السياسي، وجماعة «الإخوان المسلمين»، كما هو الحال مع التنظيمات الإرهابية في بناء هويّتها المجتمعية على تحويل الموت إلى صناعة يجب استثمارها، موت الرموز شكّل دافعاً كبيراً في مسيرة الإسلام السياسي للإساءة إلى «السلطة» والأنظمة السياسية، والمفارقة كان إعدام سيد قطب، أحد تلك الروافد في استثمار ثقافة الموت وشعبية الجماعة مع الأدبيات المرافقة للمظلومية وحكايا السجون وما فيها من تعذيب. ومَن يطالع «أيام من حياتي» المنسوب إلى زينب الغزالي الذي صدر في السبعينات يدرك كيف يتم استخدام الموت والسجن كملْهِم للحركات الإسلاموية.
التنظيمات المتطرفة أيضاً من «القاعدة» إلى «داعش» التي ابتهجت ووظّفت موت المثار عليه محمد مرسي ووصفته بـ«الهلاك»، تعتمد بشكل أساسي في خطابها على توظيف «الموت» بدءاً من مفهوم «الشهادة» وصولاً إلى استقطاب الشباب للانتحار في سبيل خدمة أجندتها السياسية، ومَن يطالع المقاطع المصوَّرة للانتحاريين قبيل العملية يدرك مدى قدرة هذا التوظيف الآيديولوجي والنفسي على تجنيد المزيد من قرابين الموت البشرية في ظل استئثار القياديين لتلك التنظيمات بالحياة والسياسة والتمويل.

توظيف الموت خلال الأيام الفائتة بلغ ذروته مع موت مرسي، وإعادة بعث حادثة خاشقجي التي لا تزال منظورة في القضاء السعودي وبمراقبة مندوبين عن المنظمات الحقوقية، لكن الأهم هي قراءة ردة الفعل من زاويتها السياسية وليس الجانب الشخصي الذي طغى على ذلك التوظيف ومقاومته من الفاعلين على مواقع التواصل الاجتماعي وبقيادة النائحة الثكلى لمشروع تمكين الإسلام السياسي قناة «الجزيرة».
المسألة لا علاقة لها بالترحم أو تقدير الموت والتشييع الجماهيري للميت. الدعاء بالرحمة من عدمه ممارسة دينية وموقف عاطفي شخصي، لكنه حين ينتقل إلى العلن ويتم التعبير عنه بشكل جماهيري، مع التلميح بالقتل رغم التصريحات الرسمية والتأكيدات من القضاء المصري، دليل على أننا بإزاء عمل منهجي لإعادة استخدام آيديولوجيا توظيف الموت التي رافقت مرحلة التأسيس والاصطدام بين تنظيمات الإسلام السياسي والأنظمة السياسية على الرغم من خسارة معسكر الإسلام السياسي سيطرته على مصادر التلقي التقليدية وانتقاله إلى الأقنية الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي التي لا يمكن معها إنتاج خطاب أحادي مبنيٍّ على روايات شخصية دون أن تجابَه بكمٍّ من الأسئلة القانونية والمنطقية.

والحال أن نجاح أو فشل آيديولوجيا استثمار الموت سواء من الدول أو القنوات الإعلامية أو حتى التنظيمات، سيكون عاملاً أساسياً في منسوب العنف والموقف منه، لا سيما أن تصريحات رموز الإسلام السياسي وجمهوره الرقمي مضى بعيداً في ردة الفعل ليرسل إشارات غير مطمئنة إلى العودة إلى مربع العنف مع انحسارٍ في شعبيته في كل مناطق نفوذه السابق سواء في مصر أو الخليج حيث الأجيال الجديدة الشابة تعيش حالة قطيعة مع ذلك الخطاب.
من بين تلك الإشارات المقلقة ردة فعل حركة «حسم» المدرجة على القوائم الأميركية والبريطانية للإرهاب التي قالت في بيانها: «كانت له بالأعناق بيعة، وصار له اليوم ثأرٌ لا ينطفئ، وإن غداً لناظره قريب»، وبإزاء هجوم «داعش» المضاد لتنظيم «القاعدة» عبّرت شخصيات محسوبة على «القاعدة» وإخوته عن موقفها؛ حيث أرسلت بيانات وتسجيلات صوتية ومرئية داعمة للإرهاب تصف مرسي بصاحب القلب الطاهر، بينما تصرّ حركة «طالبان» على أن تعبّر عبر قياداتها في قطر على الدخول في معترك استثمار الموت وتصفه بأنه «منارة مشرقة»... وهلم جراً، يمكن رصد العشرات والمئات من نبرة التقديس ومحاولة أسطرة الميت في سبيل بعث أفكار المؤمنين بآيديولوجيته.
العودة إلى مربع العنف عدا كونه تهديداً خطراً للاستقرار، فإنه سيقود الجماعة إلى الهاوية على المستوى الدولي ويسرّع من اعتزام الولايات المتحدة تصنيفها منظمةً إرهابيةً، كما سيضع الدول الأوروبية التي تتكدس فيها شخصيات نافذة ومؤسسات متغلغلة في نسيج الجاليات الإسلامية في مأزق قانوني كبير.

ورغم انتهاء ملف الشرعية الذي ترفعه الجماعة وتيارات الإسلام السياسي والمتعاطفين مع أفكارها حتى من تيارات اليسار المناوئة للسلطة، فإن سؤال المشروعية لسلوك الجماعة في الأيام المقبلة وقراءته بشكل دقيق دون إعلان موتها كما تم إعلان نهاية «داعش»، سيكون الملف والتحدي الأكبر لدول المنطقة، فالأفكار الراديكالية لا تموت وإن تراجعت شعبيتها، وهو ما يفهمه قادة «الإخوان» جيداً حسب نائب المرشد إبراهيم منير الذي قال: «مررنا بالأسوأ والأشد قسوة في تاريخنا لكنّ كل هذا ذهب وبقيت الجماعة».
دول الاعتدال تواجه اليوم حرباً معلنة على المستوى الإعلامي والتدخل السيادي، والاستثمار في الموت بشكل رخيص وبراغماتي لم يعد مقتصراً على خطاب الإسلام السياسي الذي برع فيه في العقود الفائتة، خصوصاً أنه يتقاطع مع المشاعر الدينية لعامة الناس، بل هو اليوم يلبس أيضاً عباءة حقوقية من قبل مؤسسات أجنبية مريبة قائمة على استهداف دول بعينها لتقويض استقرارها وأمنها وليس دفاعاً عن أموات باتوا للأسف رؤوس أموال سياسية.