علي العميم

أما تساؤل القاصّ سليمان فياض الثاني، وهو أن سبب رفض العقاد كتابة مقدمة لكتاب سيد قطب قد يكون بسبب حدة القلم وتمرد الروح في كتابات سيد قطب، فهو تفسير لا يستحق المناقشة، لأنه كان انتحالاً مقتضباً ومخلاً ومشوهاً لتفسير قال به محمد رجب البيومي في مقاله، «سيد قطب بين العقاد والخولي»، المنشور في مجلة «الثقافة» بتاريخ فبراير (شباط) عام 1978، الذي ردَّ به على مقال تلميذ من تلامذة أمين الخولي، عبد المنعم شميس، المنشور في مجلة «الوحي» العمانية في عددها العشرين، والذي قال فيه: «إن العقاد لم يساند سيد قطب ولم يؤازره... لأن العقاد كان يعتقد دائماً أنه العبقري الأوحد ولا عبقريَ سواه»، وادعى في المقابل أن أستاذه أمين الخولي ساند سيد قطب وآزره!
محمد رجب البيومي فنَّد ادعاء عبد المنعم شميس بقوة، من خلال عرضه لتفصيل الخلاف بين أمين الخولي وزوجته بنت الشاطئ، وسيد قطب.

التفسير الذي قال به البيومي في مقاله المذكور هو أن «من طبيعة العقاد حين يتحدث عن عَلَم من أعلام الأدب في الشرق والغرب أن يخلط النقد بالتقريظ، فلا بد أن يجد ملاحظة يقولها مما تراه العين الفاحصة ذات المجهر الدقيق، وهو يعلم طريقة تلميذه المتحفزة التي لا تصبر على نقد، فآثر السكوت كي لا يثور عليه تلميذه. والحق أن في طبيعة قطب كثيراً من طبيعة العقاد، فكلاهما لا يستكين لتوهين، وما كان حبهما المشترك حيناً طويلاً من الدهر إلا لاتفاقهما في أكثر المواهب والخلال، وأنا لا أدافع عن العقاد، فقد يعلم الله (!!!) أني أحب الشهيد لدرجة تقرب من التقديس. وحسبه أنه بذل روحه فداء الحق وأنفة من الطغيان، ولكني أتخيل ما عسى أن يقف بمثل العقاد عن الإشادة بمريده العبقري! وهو مما يحسب عليه مهما وجد المبرر الصحيح».
ولعل القارئ قد لاحظ وجهاً من وجوه تشويه سليمان فياض التفسير الذي انتحله؛ فالبيومي في تفسيره يتحدث عن لماذا لم يقرظ العقاد سيد قطب في أي عمل من أعماله، سواء أكان هذا العمل شعراً أو قصة أو سيرة ذاتية أو كتاباً نقدياً، ولا يتحدث عن لماذا لم يقدم لكتاب محدد من كتب سيد قطب، إذ إنه من المتعارَف عليه في تقاليد كتابة مقدمات الكتب ألا يخلط التقريظ بالنقد.
الدارس الوحيد من بين دارسي سيد قطب الذي علق على تلك القضية، هو عبد الله الخباص في كتابه «سيد قطب... الأديب الناقد»، وقد رأى في تعليقه عليها أن عامر العقاد في دفاعه عن عمه، لم يأتِ بدليل يقتنع به قارئ مقاله «كلمة في أثر كلمات... حول العقاد وسيد قطب وأمين الخولي». ومن الحق أن نقول إن تفسير محمد رجب البيومي كان - أيضاً - غير مقنع؛ فهو تفسير عاطفي وتوفيقي ضعيف يتوكأ على الجمع ما بين تقديره للعقاد من جهة، وتقديسه لسيد قطب من جهة ثانية!
يخالف علي شلش، محمد رجب البيومي، في رأيه بتشابه طبيعة سيد قطب مع طبيعة العقاد حين بحث في سبب الخلاف بين سيد قطب وأستاذه العقاد، في كتابه «سيد قطب والتمرد على الأدب»، ويقدم رأياً موضوعياً، فيقول: «نحن نعرف أن وحدة المزاج بين الأصدقاء تؤدي عادة إلى طول عهد الصداقة، ونعرف أيضاً أن مزاج كل من العقاد وسيد قطب كان مختلفاً في بعض الأمور الجوهرية؛ فالعقاد كان عقلانياً إلى درجة إفناء عاطفته في فكره، وسيد قطب كان عاطفياً انفعالياً إلى درجة إخضاع عقله لانفعالاته. وبينما كان العقاد شخصية هادئة مستقرة المظهر على الأقل، كانت شخصية قطب قلقة حادة من الداخل والخارج. ومع ذلك عمرت الصداقة بين الاثنين أكثر من عشر سنوات، وكانت طوال عشر سنوات على الأقل (1933 - 1943) مثال العلاقة بين الأستاذ والتلميذ، أو الشيخ والمريد».
محمد رجب البيومي شاعر وأديب وباحث وأكاديمي تخرج في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر. نشأته الأولى كانت نشأة إخوانية. ومع انفصاله العضوي عن الإخوان المسلمين في فترة مبكرة من حياته، فإنه ظل على ولائه الروحي والعاطفي والفكري للإخوان المسلمين في مصر وفي العالم العربي، وللجماعة الإسلامية في القارة الهندية. وإذا ما ترجم لعلم من أعلام الحركة الإسلامية، فإنه يترجم له بحفاوة مفرطة، ويغضّ النظر عن غلوّه وتزمّته الديني، رغم أنه معتدل في تدينه، ومتحرر بقدر كبير من غلواء الإسلاميين في نهجه الأدبي، ولا أقول إنه متحرر بهذا القدر من غلوائهم في نهجه الثقافي، وفي نهجه الإسلامي.

افتتن محمد رجب البيومي بسيد قطب منذ أن نشر الأخير كتابه، «العدالة الاجتماعية في الإسلام». ولقد تصدى للرد على مقال من مقالات محمد محمود شاكر الأربعة التي كان قد نشرها في مجلة «المسلمون» الإخوانية ما بين عامي 1951 و1952، في نقد كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام». تصدى للرد على المقال في مجلة «الرسالة» في فبراير عام 1952، وتصدى في هذا العام في مجلة «الثقافة» للرد على مقال عز الدين إسماعيل، في نقد ذلك الكتاب، المنشور في تلك المجلة.
في مقاله الأول، المعنون بـ«حكم بلا بيّنة»، أطلق محمود محمد شاكر صيحة ناصحة، في وقت مبكر جداً، وكانت الأولى من نوعها في العالم العربي وفي العالم الإسلامي في تبيان خطر مقولة من مقالات الإسلاميين، التي لو أُدرك في وقتها قيمتها وأهميتها، لما نجح الإسلاميون في أوقات لاحقة في إشعال سلسلة متصلة ومتتابعة من الحرائق الدينية العبثية والعابثة، وتأجيجها في عالمنا العربي وفي عالمنا الإسلامي.
هذه الصيحة الناصحة هي قوله: «وقد تفشت في أهل الإسلام منذ زمن قريب فاشية شديدة الخطر على تاريخ الإسلام كله، بل على دين الله نفسه. نظرت متعجلةً في دين ربها، وخطفت خطفة في تاريخ أسلافها، ثم انتزعت من ذلك حكماً يدمغ المسلمين جميعاً منذ القرون الأولى من الهجرة باطّراح الدين واتباع الشهوات، فزعمت مثلاً أن الإسلام لم يُطبق ولم يُعمل به إلا مدة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومدة أبي بكر خليفة رسول الله، ومدة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، ثم مرج أمر الإسلام واضطرب! والخطأ في مثل هذا الحكم الدامغ يكبر عن أن يسمى خطأ... إنه الحالقة: حالقة الدين لا حالقة الشعر، كما

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، تستأصل دين الصحابة والتابعين، وتستأصل أمانتهم في تبليغه، وتستأصل ما بذلوه في نشره في مشارق الأرض ومغاربها، وتستأصل تاريخهم، وتستأصل تاريخ الحياة الإسلامية كلها ثلاثة عشر قرناً!».
وفي مقاله الثاني يغنيك عن تلخيصه أو نقل بعض ما جاء فيه ذكر عنوانه: «تاريخ بلا إيمان». يا لها من ملحوظة مكثفة ونافذة وعميقة وبعيدة الغور، هذه التي حملها هذا العنوان الذي قاله في ثلاث كلمات إن لم تكن أربعاً!
من فرط حماسة البيومي لسيد قطب وكتابه، «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وكتابيه: «معركة الإسلام والرأسمالية» و«السلام العالمي والإسلام»، المنشورين في عام 1951. نازع عز الدين إسماعيل في أن يكون سيد قطب من الرعيل الثاني من المفكرين في مصر الحديثة، واستعدى السلطة السياسية عليه. وهذا الفعل يُعدّ فعلاً مستغرباً منه وغريباً على أخلاقه وشيمه، وما دفعه إلى ذلك إلا غلوه في حب سيد قطب، وإسرافه في الإعجاب بإسلامياته.
يقول في رده على إسماعيل عز الدين: «وقد كان سيد قطب من الرعيل الثاني فعلاً قبل أن يبدأ سيله الزاخر في السنوات الأخيرة بكتاب (العدالة)، وما تبعه من المؤلفات، أما الآن فلا ينكر عليه منصف مكانه المنفوس في الرعيل الأول من الكتاب. وليس هذا بكثير على كاتب مجاهد دفع عن زملائه معرة الجبن والخمول (!)، فمهَّد للثورة الأخيرة بقلمه، واندفع سنوات متلاحقة يحارب الفساد في الصحف الحرة النزيهة، كـ(الدعوة) و(اللواء) و(الرسالة) و(الاشتراكية) و(روز اليوسف)، حتى ليجوز أن تشبه موقفه من النهضة الأخيرة بموقف فولتير من الثورة الفرنسية»!
سيد قطب حين كتب محمد رجب البيومي رده هذا كان من أبرز دعاة تمجيد ثورة يوليو، وكان قريباً من بعض رجالاتها، وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر، لكنه أخطأ وهو يبالغ في مدح تلك الثورة إلى حد مماثلتها بالثورة الفرنسية! بقوله «إن سيد قطب مهّد لها بقلمه»؛ فهذا مما لا يوافقه عليه رجال الثورة. وأخطأ أيضاً باتهامه الطائش لكتّاب الصف الأول في مصر وتحريضه عليهم، فرجال الثورة كانوا يتوددون إلى كثير منهم. ولعل هذين الخطأين من منظورهم هما اللذان أبطلا استعداءهم السياسي على عز الدين إسماعيل.
إني أتفهم دفاع محمد رجب البيومي عن كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، فحتى غير الإسلاميين كان فيهم مَن يثمِّن هذا الكتاب لسنين طويلة، باعتباره يمثل نظرة جديدة ونظرة ثورية للإسلام ولتاريخه، لكن ما لا أتفهم أنه أعاد التأكيد على صحة موقفه في الجزء الخامس من كتابه «النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين» المطبوع في عام 1999. وذلك بعد أن ثبت عيانياً تأثير أفكار سيد قطب الإسلامية الخطير والمدمر على الشباب المسلم في بلده، وفي بلدان أخرى، منذ سبعينات القرن الماضي. ولا يقول بغير هذا سوى معاند أو مكابر أو مغالط أو هو - بالفعل - ينظر إلى سيد قطب نظرة تقديس!

وقبلها بسنوات كان قد كتب مقالاً في مجلة «الفيصل»، العدد 188، صفر 1413هـ/ أغسطس (آب) 1992م، عنوانه «بين سيد قطب ونجيب محفوظ»، دافع فيه دفاعاً عاطفياً حاراً عن سيد قطب إزاء ما قاله عنه نجيب محفوظ في مراياه، وأعاد نشره في الجزء الثالث من ذلك الكتاب، المطبوع أيضاً في عام 1999، مع مقدمة عاطفية مشبوبة لم يخلُ عنوانها ولا متنها من ترديد ترهات الإسلاميين وأباطيلهم حول سيد قطب.
في كل ما كتبه محمد رجب البيومي إلى لحظة وفاته، لم يكن يسلّم بأن سيد قطب متطرف في أفكاره الإسلامية، لسبب غير موضوعي، وهو أنه كان متطرفاً في حبه والإعجاب به. ومع حبه وإعجابه المتطرف بسيد قطب لحظت أنه لم يُعِد نشر رده على عز الدين إسماعيل في ذلك الكتاب، لأنه إن أعاد نشره فسيعيب عليه محبوه من الإسلاميين تسمية حركة الضباط الأحرار حيناً بـ«ثورة»، وحيناً بـ«نهضة»، وسيعيب الآخرون عليه استعداءه السياسي على ناقد ودارس أدبي محض كان مبتوت الصلة بالسجال السياسي والسجال الفكري. وللحديث بقية.