&محمد بدر الدين زايد&&

يحتاج المرء للعودة الهادئة إلى ما كتبه المفكر المصري الكبير عباس محمود العقاد رحمه الله في كتابه "حياة المسيح"، وتحليله لعالم ما قبل ظهور السيد المسيح الذي نقلت دعوته البشرية إلى فكرة العالمية الإنسانية وتجاوز احتكار الهداية الإلهية من جانب سلالة واحدة من بني الإنسان. وإذا تركنا جانب الجذور التاريخية للعنصرية الصهيونية، وتوقفنا عند السياق التاريخي الأوروبي ومعاناة يهود أوروبا من التمييز العنصري ضدهم فقد أدى هذا إلى الظاهرة الصهيونية التي أصبحت منظومة معقدة من المفاهيم العنصرية التي أختلطت فيها ردود الفعل ضد هذا التمييز الغربي السابق مع التفسير الإنتقائي للدين بالأساطير لتنتج رؤية وتصورات سياسية من أسوأ مراحل التمييز العنصري في التاريخ.


والمظاهرات التي شهدتها إسرائيل وربما يستمر بعضها لفترة قادمة من اليهود الإثيوبيين لا تخرج عن هذا السياق، فهي ظاهرة سبق إنفجارها عدة مرات وآخرها عام 2015، كرد فعل لمعاناة هؤلاء منذ استجلابهم إلى إسرائيل عام 1984 و1992، مع زيادة محدودة سنوياً، وصلت بهم إلى حوالي 144 ألف نسمة، يعيش غالبيتهم في مناطق عشوائية أو شبه ذلك، ويمارسون الوظائف الدنيا، ويعانون ارتفاع نسبة الجريمة والفقر، ومن ثم أزمات متواصلة مع الشرطة الإسرائيلية، ومعاملة دونية من بقية المجتمع الإسرائيلي، والسبب في كل ذلك أن عدداً كبيراً من حاخامات إسرائيل يتشكك في يهوديتهم، ويعتبرهم مسيحيين يدَّعون اليهودية، ولولا فتوى من أحد أكبر حاخامات اليهود الشرقيين يوسف عوفاديا باعتبارهم يهوداً من سلالة قبلية يهودية قديمة لكان وضعهم أصبح أكثر سوءاً مما هم فيه الآن، وعموماً الأمر في تفسير أوضاع هؤلاء الفلاشا يعود للونهم بالأساس.

وقبل أسابيع كتبت أكثر من مرة عن أوضاع عرب 1948، وخاصة ما يتعلق بصدمة دروز إسرائيل، الذين اكتشفوا بعد محاولتهم الاندماج في المجتمع الإسرائيلي والتخلي عن هويتهم العربية، أنهم باعوا لأنفسهم الوهم ولم يصبحوا مواطنين كاملي الأهلية والحقوق في هذا المجتمع، وهو ما لم يكن قائماً قط في أي مرحلة، وبعد اندفاعهم لعقود عدة في خدمة هذه الدولة العنصرية، يصدر قانون يهودية الدولة الإسرائيلية، ليتحولوا من مواطنين من الدرجة الثانية إلى التلاشي والتهميش مثلهم مثل المسلمين والمسيحيين من عرب 1948، مع فارق أن هؤلاء لم يتنازلوا عن هويتهم وثقافتهم العربية وتمسكوا بها عبر هذه العقود، وعموماً ليمحي هذا القانون أي أوهام حول من لايزال يتوهم منهم حول حقيقة هذا المجتمع الصهيوني المتعصب، وأي نوع من الديموقراطية يطبقه فهي لفئة وحدها والباقون محرومون من ممارستها بشكل كامل، على الأقل ما دام مسيطراً عليه من هذا اليمين المتطرف.

الأمر إذن أن هذا الفكر العنصري، الذي يستبعد الآخر من دولته، عنصريته لا تتجزأ بل توجه لكل الآخرين، وتمتد إلى مكوناته ذاتها، فلان هذا مرتبط بتقاليد عميقة من الانغلاق، ووهم أنه شعب الله المختار الذي يستحق وحده رعاية الخالق ورحمته، وأنه لكي يمكن مواصلة هذه الأوهام عبر التاريخ فلابد من قبول منظومة متكاملة من الأساطير والأفكار التي تجعل من مواصلة هذا الفكر أمراً ممكناً، ولعل هذا الأمر قد يعيد الاعتبار إلى بعض مفكري اليسار المصري والعربي الراحلين الذين كانوا يرون قبول أي تسوية مع إسرائيل ولو غير عادلة وترك تناقضات هذا الكيان الصهيوني الداخلية لتقضي عليه من الداخل، وكانوا يراهنون على التناقضات بين اليهود الشرقيين والغربيين بشكل خاص لإحداث هذا، وأن ما يجمع هؤلاء أقل مما يفرقهم، فضلا عن أن الفكر الاستعلائي العنصري لا يتوقف عن إفراز أمراضه وعلله ما يكفي للتخلص من هذه الظاهرة التي لا تستقيم مع العقل والحقائق التاريخية . عموماً فات أوان ذلك الآن، ولكن الذي لم يفت أوانه قط من جانبنا كعرب هو كيفية توظيف هذه الظاهرة ضد إسرائيل، حتى بعد التراجع عن قرار الأمم المتحدة اعتبار الصهيونية حركة عنصرية، وهو تراجع ربما قد ينظر إليه تاريخياً كمؤشر لتراجع القضية الفلسطينية، ولا يمكن إعادة عقارب الساعة إلا بسياسة النفس الطويل وعبر تراكم خطوات عديدة صغيرة ومتوسطة.

وفي كل مرة تتبدى سياسات إسرائيل العنصرية أو القمعية نقول لعل هذا الخيط نبدأ منه، ولكننا لا نفعل، ومع ذلك فإن مسألة يهود إثيوبيا أو الفلاشا أيا كانت ديانتهم الحقيقية، خيط رائع للديبلوماسية الفلسطينية الرسمية والشعبية، لإعادة الزخم للدعم الإفريقي المتآكل للقضية، ووقف التحسن المتصاعد في صورة إسرائيل في هذه القارة، وأي دليل يفضح هذه الدولة العنصرية أكثر من هذا، فهم يعاملون حتى من يؤمن أو يدعي الإيمان بديانتهم اليهودية، ولكنه أسود اللون معاملة عنصرية بغيضة، ولا يريد غالبيتهم قبول انتمائهم لهذا الدين، ولا يزالون يتحدثون عن تلك القبائل اليهودية القديمة دون أن نفهم كيف جاءوا من أنحاء العالم بسماتهم المختلفة كشعب واحد مختار، ولولا خلافهم مع الأغيار الآخرين، لواصلوا سياسات الاستعلاء والحذف داخل أنفسهم لضمان النقاء العنصري الذي يدعو للرثاء والخجل .وهذا التحرك الديبلوماسي والإعلامي وفي وسائل التواصل الاجتماعي في أنحاء القارة الفريقية والعالم سيجد استقبالاً جيداً لو سارع به الجانب الفلسطيني والعربي.

ومرة أخرى، أكرر ما ذكرته حول عرب الأراضي المحتلة قبل 1948، وأن قضيتهم يجب أن تصعد إلى السطح كأداة وهدف في ذاته، أداة لفضح سياسات إسرائيل العنصرية، وما سببه لهم القانون الأخير من تحويلهم من مواطنين "درجة ثانية" مهمشين إلى حكم الإلغاء حالياً، أما كهدف في ذاته فينبع من كونهم مواطنين من حقهم ممارسة حقوقهم الكاملة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي ممارسة قد يكون لها تداعيات أكثر عمقاً في تغيير طبيعة النظام العنصري الإسرائيلي وتقرب كثيراً من فرص تحقيق السلام وإنهاء المعاناة الفلسطينية الطويلة.

إن الصراع بسبب وضد العنصرية والاستعلاء صراع قديم وممتد عبر التاريخ، كلف البشرية الكثير، وكان لهذه العنصرية دورها دوماً في كثير من الحروب والصراعات القديمة وتلك الاستعمارية الأكثر قرباً عبر التاريخ، وكانت الحرب العالمية الثانية بما كلفته للبشرية هي أقصى مراحل هذا الصراع وخطيئة العنصرية الكبرى، وإذا كانت النازية والفاشية ثم القومية اليمينية الحالية التي تجتاح الدول الغربية الآن هي آخر صور هذه العنصرية البغيضة بخلاف الصهيونية، فإن أحد أهم جذور هذا الفكر العنصري الصهيوني يمتد إلى تقاليد هي الأولى في ترسيخ هذا الفكر المشوه والذي كان له دور تاريخي لا يمكن الاستهانة به في انتشار هذا الفكر المريض، ويجب أن يركز العرب والفلسطينيون على هذا البعد الذي قلنا دوماً أنه في عصر التواصل الاجتماعي الواسع هو أقوى أداة يمكن من خلالها تغيير مسار المواجهة المختلة بين الجانبين، ما يجعل هناك دوماً مساحة أكبر للأمل ولتغيير معادلة الإحباط الراهنة.