&محمد كركوتي

"خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق، قد يكلف الخزانة العامة 114 مليار دولار".

فيليب هاموند، وزير المالية البريطاني

لن تتضح الصورة العامة للسياسة البريطانية حتى بعد أن يتم اختيار زعيم جديد لحزب المحافظين، وبالتالي رئيس للوزراء، سواء كان جيرمي هانت وزير الخارجية الحالي، أو سلفه بوريس جونسون. الساحة السياسية في المملكة المتحدة تعمها الفوضى، بل لنقل صارت مليئة بعدم اليقين. فالتحالفات تتم بسرعة، والانشقاقات كذلك. والصراعات بين نواب الحزب الواحد، ولا سيما المحافظين، أصبحت جزءا أصيلا من الأخبار اليومية العادية. ناهيك عن الاتهامات المتبادلة التي تستند إلى حقائق، أو تلك التي تستهدف إحداث الضرر بالجهة المستهدفة دون أدلة ملموسة. في بريطانيا لا توجد حكومة الآن، وتيريزا ماي ترأس حكومة تصريف أعمال، إلى حين انتخاب أعضاء حزب المحافظين، البالغ عددهم 160 ألفا فقط، أحد المرشحين المطروحين. وهذا بحد ذاته يطرح إشكالية ديمقراطية. فكيف يمكن أن تحكم البلاد بأصوات 160 ألف شخص فقط؟!
في الصراع على زعامة حزب المحافظين، تراجعت القضايا التي تهم المواطن البريطاني مباشرة. كل شيء كان محصورا في كيفية إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. بالطبع جونسون المدعوم من المؤيدين للخروج بأي ثمن، يتصدر السباق. فالتعهد بالخروج بأي طريقة كانت حتى لو بلا اتفاق، هو الشعار الأكثر شعبية في أوساط أعضاء حزب المحافظين، في حين أنهم لن يلتفتوا إلى الآثار الخطيرة المترتبة على خروج بلا اتفاق. وهذا بالضبط ما يجعل حظوظ جيرمي هانت قليلة في الوصول إلى زعامة الحزب. فهذا الأخير لا يزال ملتزما بالخروج باتفاق، ويريد أن يعيد التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، لتمرير اتفاق جديد مقبول معه على مجلس العموم البريطاني، الذي أوقف عدة مرات اتفاق تيريزا ماي الشهير، ووضعه في سلة القمامة.

وزير المالية فيليب هاموند جنب ما بين 26 و27 مليار جنيه استرليني من الاحتياطي المالي، بهدف حماية الاقتصاد من التأثيرات السلبية المباشرة لاحتمال الخروج بلا اتفاق. فالوزير يعتقد أن خروجا كهذا يعني مأساة اقتصادية في بريطانيا. وقدم المبرر تلو الآخر بهذا الصدد. المشكلة هنا، أن جونسون وفي محاولة لجذب مزيد من المؤيدين له، وعد بخفض الضرائب وزيادة الإنفاق. لكن المليارات المجنبة لا تسمح له بذلك، ما يجعله كبقية السياسيين الشعبويين عرضة للاتهام بالتدليس. وقد وجهت بالفعل له اتهامات كهذه في مناسبات لا تحصى. فلا يمكن الخروج بلا اتفاق، وتوقع نمو اقتصادي بصرف النظر عن مستواه في الوقت نفسه، خصوصا مع تحذيرات قطاع الأعمال والمصانع والتجار وغيرهم من مغبة خروج كهذا من الاتحاد.
والأمر ظهر حتى قبل انتهاء جولة انتخاب زعيم لحزب المحافظين. فقد أشارت بيانات رسمية بريطانية إلى تراجع النشاط الاقتصادي في البلاد للشهر الثاني على التوالي في نيسان (أبريل) الماضي، وانخفض بنسبة 0.4 في المائة. وكان هذا الانخفاض أشد مما أجمعت عليه توقعات المحللين الذين قدروا أن

يكون بنسبة 0.1 في المائة. والسبب يبقى دائما، عدم اليقين الذي يلف عملية خروج بريطانيا "بريكست"، وتهافت مؤيدي الخروج على الانسحاب بأي طريقة كانت. فالإنتاج الصناعي يتراجع بالفعل، وقطاع السيارات الأكثر خسارة بين كل القطاعات، على الأقل في الوقت الراهن. ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد البريطاني بعيدا قليلا عن مرحلة الكساد. إلا أن المؤشرات كلها تدل على أنه سيدخل فيها حتما في وقت لاحق.
تقديرات وزارة المالية البريطانية أكدت أكثر من مرة، أن خروجا بلا اتفاق أو انسحابا فوضويا من الاتحاد الأوروبي، سيعرض اقتصاد البلاد إلى انكماش ما بين 3 و7 في المائة. وعزز هذه التوقعات بنك إنجلترا المركزي نفسه، الذي يتمتع باستقلالية عن الحكومة. الطريق نحو الكساد يبدأ في أي بلد كان بتباطؤ النمو، وهذا ما يجري على الساحة البريطانية الآن، فكيف الحال إذا ما تم "بريكست" بلا اتفاق؟! دون أن ننسى، مثلا، أن قطاع الصناعات التحويلية انكمش بنسبة 3.9 في المائة، وانخفض إنتاج السيارات بنحو 24 في المائة، وهو أكبر انخفاض منذ بدء تسجيل البيانات في عام 1995. أما قطاع الخدمات القوي في المملكة المتحدة فقد دخل بالفعل في حالة ركود مرعبة.

ورغم أن تباطؤ الاقتصاد البريطاني يتناغم مع تباطؤ الاقتصاد العالمي ككل، إلا أن الحالة البريطانية الفريدة في الوقت الراهن تلفها المخاطر من كل جانب. والسبب دائما هو نفسه، الاضطراب السياسي والاقتصادي حتى الاجتماعي بفعل فوضى "بريكست". فالمصانع تغلق، وخطوط الإنتاج تتراجع، وانتقال المؤسسات إلى البر الأوروبي يتواصل. كل هذا وأكثر يجري في ظل غياب استراتيجية واضحة لمواجهة استحقاقات الخروج بصرف النظر عن شكله ومضمونه. الحقيقة الواضحة على الساحة، أن مؤيدي الخروج يريدون الانفصال عن أوروبا إلى الأبد، ويحلمون بعلاقات تجارية واسعة مع بقية دول العالم. لكن هذه الدول قالت في غير مناسبة، إن الأمر لا يتم وفق هذه الأحلام الانفصالية.

&