& سليمان جودة

& التحريض الذي تمارسه الدوحة على البحرين هذه الأيام عبر قناة «الجزيرة»، ليس التحريض الأول من نوعه، فلقد مارسته القناة نفسها من قبل، إزاء تونس مرة، ثم إزاء القاهرة مرات، وقت أن كان ما لا يزال يتسمى «الربيع العربي» في غمرة إطلاقه على دول المنطقة!

وهو تحريض ظاهر وسافر، ويشير في كل جوانبه إلى أن القناة قد نسيت الإعلام وأصوله، وهجرت المهنة ومبادئها، وراحت تشتغل فيما لا علاقة له بالإعلام، ولا صلة له بالمهنة من قريب أو بعيد. فالذين درسوا الإعلام على أيدي أساتذته، وخبرائه، ورجاله، يتطلعون إلى ما تذيعه القناة على شاشتها، ويتساءلون في حيرة عما إذا كانت هذه المادة المذاعة تحترم المشاهد، وتفترض أن في رأسه عقلاً يفرز ويميز، أم أنها لا تفترض فيه شيئاً من ذلك، وبالتالي فإنها تضلله؟!

وحقيقة الأمر أن الإخوة في البحرين ليس لهم أن يبتئسوا مما قد تذيعه القناة عن بلدهم، ومما قد تقوله في واحد من برامجها عن أن للمنامة صلات مع إرهاب تنظيم «القاعدة»!
ليس لهم أن يبتئسوا لسببين اثنين، أما أولهما فهو أن هذا ليس دأب الفضائية القطرية مع البحرين وحدها، فلقد مارست الشيء نفسه مع مصر، ولا تزال تمارسه، وهي مارسته مع المملكة العربية السعودية، ولا تزال تمارسه، وهي مارسته مع دولة الإمارات العربية، ولا تزال تمارسه، ثم إنها مارسته وتمارسه مع البحرين بوصفها رابعة الدول التي قطعت علاقتها مع الدوحة قبل أكثر من عامين!
وكان الأمل أن يؤدي قطع العلاقات من جانب الدول الأربع، إلى أن تراجع الحكومة القطرية سياستها، وأن تعيد النظر في سياسة فضائيتها فتصححها، فلم يحدث شيء من ذلك بكل أسف، ومضت الحكومة ومن ورائها القناة في الطريق ذاته، دون رغبة في مراجعة واجبة، ولا في إعادة نظر مطلوبة، وكل ما فعلته الحكومة في الدوحة أنها راحت تسمي المقاطعة حصاراً، ثم تعزف على هذه النغمة طول الوقت!
ونسيت، أو لعلها تناست، أنها بتصميمها على المضي في الطريق ذاته، إنما تحاصر نفسها قبل أن «تحاصرها» الدول الأربع!
وأما السبب الثاني فهو أن القول العربي المأثور، الذي يتحدث عن «التي رمتني بدائها وانسلت» إذا كان ينطبق على كيان في هذه اللحظة، فإنه ينطبق على قطر دون غيرها من الكيانات في المنطقة كلها، على طولها وعرضها، وأكاد أقول خارج المنطقة كذلك على السواء!

وليس الداء المقصود هنا سوى الصلة بالإرهاب، وأهل الإرهاب، وبالذات بتنظيم «القاعدة»، وبالذين انتموا إلى هذا التنظيم الإرهابي الذي أرهق العالم، وأزهق من الأرواح البريئة الكثير، ودمر من مظاهر الحياة على وجه الأرض عموماً، وفي منطقتنا خصوصاً، الكثير والكثير!
ولا بد أن كلنا يذكر كيف ظل أسامة بن لادن يطل على العالم بأشرطته المسجلة عبر نافذة «الجزيرة»، دون غيرها من النوافذ الإعلامية في شتى أنحاء العالم، وما أكثرها، وقد كان العالم كلما أفاق من الصدمة التي كانت تصيبه مع كل شريط جديد، يجد نفسه على موعد مع شريط آخر. ولم يكن بن لادن يختار

نافذة «الجزيرة» لأن بينه وبين القائمين عليها صلة من صلات النسب، ولا لأن بينه وبينهم علاقة من علاقات القرابة، ولكن لأن الصلة كلها كانت في أصلها قائمة بين حكومة قطر ذاتها وبين التنظيم، ولأن العلاقة جميعها كانت موجودة فيما بدا في كل المرات بين الدوحة وبين جماعة بن لادن!
والغريب أن هذا لم يكن في كل أحواله شيئاً مخفياً، ولا كان يحاول حتى أن يستتر بعيداً عن العيون، ولكنه كان واضحاً على الشاشة القطرية في كل أوقاتها، وكان يتجلى في كل مادة تذيعها، وكان يتبدى في كل صورة تعرضها على مشاهديها، ولم يكن يتخفى ولا كان يضع على وجهه قناعاً يستره!
وقد كان موقف قطر من البيان الختامي الذي صدر بعد القمة الخليجية في آخر رمضان موقفاً كاشفاً، وكان يشير إلى موقع المربع الذي اختار المسؤولون في العاصمة القطرية أن يقفوا فيه!
كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، قد أرسل يدعوهم إلى حضور القمة، التي كانت واحدة من قمم ثلاث انعقدت في مكة المكرمة وقتها، وكانت القمم خليجية، وعربية طارئة، وإسلامية، وكان الرهان على أن تلتقط حكومة قطر المعنى الكامن في ثنايا الدعوة التي جاءتها من الرياض، فتغير من سلوكها ولو بقدر يسير يشير إلى حُسن النية، لا إلى سوئها، ولكن، ما إن انفضت القمة الأولى، وما إن وقّعت قطر على بيانها الختامي، وما إن عاد ممثلها في القمة إلى بلاده، حتى كانت الخارجية القطرية تتحفظ على البيان!

وكانت أسباب التحفظ المعلنة، أن ما جاء في البيان لا يتفق مع مبادئ السياسة الخارجية في قطر، وكأن ممثلها في القمة لم يطالع البيان قبل التوقيع عليه!
وكانت الحقيقة التي لم يذكرها التحفظ الصادر وقتها عن الخارجية القطرية، أن البيان بصيغته الواضحة قد أغضب حكومة الملالي في إيران، فلم تشأ الدوحة أن تُغضب طهران، واختارت إرضاءها، وقررت أن تخطب ودها، وأن تتمادى في الارتماء في أحضانها على حساب كل مصلحة عربية!
وكان معنى التحفظ الذي بدا غريباً من كل اتجاه، أن قطر تصطف إلى جوار الإيرانيين، وتغادر الصف العربي؛ بل وتطعنه من الخلف طعنة غدر!
وليس بالغريب على مَنْ يكون هذا هو اختياره، أن يظل يرمي المنامة بما ليس فيها، وأن يشيع عنها من الأمور ما يعرف أنها أمور أبعد ما تكون عن الحقيقة. ليس غريباً، وليس للأشقاء في البحرين أن يحزنوا أو يبتئسوا، فالمشاهد الذي لا يسلم عقله للقناة قادر على أن يرى حجم الزيف فيما يذاع ويقال، وقادر أيضاً على أن يميز بين الظلام وبين النور!

أما عزاء القاهرة، والرياض، وأبوظبي، والمنامة، فهو أنها الأربع لا تحتفظ بمشكلة من أي نوع مع القطريين كشعب، ولا تسعى إلى إسقاط نظام الدوحة الحاكم، بقدر سعيها إلى تهذيب سلوكه، وتصويب سياساته، وهو الأمر ذاته الذي تسعى إليه الولايات المتحدة مع حكومة الملالي هذه الأيام!
تهذيب السلوك هو الهدف الذي لا فصال فيه، وتصويب السياسات هو الغرض الذي لا نقاش حوله، ولن يحدث هذا إلا إذا استشعرت الحكومة في قطر، كم مرة في اليوم الواحد تطعن الخاصرة العربية، بالسلوكيات غير المهذبة تارة، وبالسياسات غير المصوبة تارة ثانية!
وقد كانت الكلمات التي انطلقت من فوق شاشة «الجزيرة» ترمي المنامة بما ليس فيها، هي آخر الطعنات التي لا يليق أن تقذف بها عاصمة عربية في حق عاصمة عربية أخرى. وسوف يظل الرهان هو على أن تكون في الدوحة حكومة مسؤولة وسياسات مسؤولة!
سياسات لا تبيع الصالح العربي مهما كان إغراء الثمن المعروض في سوق البيع والشراء!