&ميشال أبو نجم

اسمه إيف بونيه، وعمره 83 عاماً، وفي الأيام الأخيرة أصبح هذا الرجل الشغل الشاغل للصحافة الفرنسية، بسبب عمل قام به قبل 37 عاماً، تحديداً في عام 1982، عندما كان يدير جهاز المخابرات الداخلية في عهد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران. ففي 9 أغسطس (آب) من العام ذلك، قامت مجموعة تتألف من ثلاثة رجال، وتتبع تنظيم أبو نضال، باقتحام مطعم «جو غولدربرغ» اليهودي الكائن في شارع «ليه روزييه»، في الحي التاريخي ليهود العاصمة الفرنسية، وألقوا قنابل، وفتحوا النار على الزبائن، وكانت النتيجة مقتل 6 أشخاص وجرح 22 آخرين، بعدها فرت المجموعة خارج فرنسا.

توصلت التحقيقات الاستخبارية والقضائية إلى التعرف على أعضاء المجموعة، وعلى انتمائهم إلى مجموعة أبو نضال، التي تُعرف بـ«فتح - المجلس الثوري»، وهي جماعة منشقة عن منظمة التحرير الفلسطينية. وتنقل أبو نضال بين عواصم عربية عدة، وتوفي في بغداد صيف عام 2002. ولم تحسم رواية موته بين من اتهم المخابرات العراقية بتصفيته وبين من يؤكد انتحاره.

واعتبرت المخابرات الأميركية أن أبو نضال، واسمه الحقيقي صبري البنا، وهو فلسطيني مولود في يافا في عام 1937، مسؤول عن عمليات إرهابية في 20 مدينة، باريس إحداها، وأنه مسؤول عن مقتل مئات الأشخاص عبر العالم.

أما لماذا يعود اسم إيف بونيه، الذي شغل منصبه الاستخباراتي الاستراتيجي بين عامي 1983 و1985، إلى التداول هذه الأيام، فلأنه اعترف، في شهادة له أمام قاضي التحقيق المكلف منذ سنوات بإلقاء كامل الضوء على هذه العملية، بأنه أبرم اتفاقاً غير مكتوب مع مجموعة أبو نضال، قوامه أن يغض الطرف عن تنقلات أفرادها في فرنسا، ويمتنع عن ملاحقتهم، شرط امتناعهم عن القيام بأعمال إرهابية على الأراضي الفرنسية.

الخبر كشفته صحيفة «لو باريزيان»، قبل ثلاثة أيام. ومنذ اللحظة التي شاع فيها، انطلق الجدل ولم يتوقف. وجاء الاستهجان بالدرجة الأولى من الأوساط اليهودية في فرنسا باعتبار أن المقصود في العملية الإرهابية كان مطعماً يهودياً، صاحبه يهودي وغالبية زبائنه من اليهود وكذلك غالبية الضحايا. وآخر من أدلى بدلوه من هذه الأوساط كان فرنسيس خليفة، رئيس المجلس التمثيلي للطائفة اليهودية، الذي طالب بلجنة تحقيق برلمانية وبإماطة اللثام عن المعلومات التي تمتلكها الدولة، والمشمولة بما يسمى «الأسرار الدفاعية». واعتبر خليفة أنه في حال التأكد من صحة ما كشف عنه مسؤول المخابرات الأسبق، فإن ذلك سيكون أمراً «بالغ الخطورة» وبمثابة «فضيحة دولة».

وحقيقة الأمر أنها ليست المرة الأولى التي يشار فيها إلى «تفاهم» بين المخابرات الفرنسية ومجموعة «أبو نضال». فقد تحدث عنها أحد أشهر الجواسيس الفرنسيين، وهو الجنرال فيليب روندو في مذكراته. لكنها المرة الأولى التي يأتي التأكيد من المسؤول المباشر عن هذه المخابرات. ويؤكد بونيه أنه لم يقم شخصياً بلقاء مبعوثين من مجموعة أبو نضال، لكنه أرسل مساعدين له لملاقاة أبو نضال، وهم من أبرموا التفاهم غير المكتوب معه. كذلك أشار بونيه إلى أن جيل ميناج، مدير مكتب الرئيس ميتران وقتها، كان على اطلاع على هذا التفاهم، ما يعني بشكل غير مباشر أن الرئيس الفرنسي نفسه كان على علم به. وقال بونيه ما حرفيته لقاضي التحقيق: «لقد أبرمنا اتفاقاً شفوياً وقلنا لهم: لا نريد مزيداً من الهجمات الإرهابية على الأراضي الفرنسية، ومقابل ذلك نسمح لكم بالمجيء إلى فرنسا، ونضمن لكم ألا يحصل لكم شيء».

ورفض بونيه الكشف عن هوية مساعديه الذين كلفهم المهمة، مؤكداً أنه «وحده» من يتحمل هذه المسؤولية. كذلك أكد أن التفاهم لم يحصل مع من ارتكب عملية الحي اليهودي، بل مع آخرين من التنظيم. أما البيان الصادر عن المجلس التمثيلي اليهودي، فقد حث الرئيس إيمانويل ماكرون على «القيام بكل ما يلزم على الصعيدين الدبلوماسي والقضائي» من أجل جلب المسؤولين عن هذه العملية إلى فرنسا، ومثولهم أمام قاضي التحقيق.

تجدر الإشارة إلى أن السلطات القضائية الفرنسية أصدرت سابقاً مذكرات توقيف بهذا الشأن تتناول أربعة أشخاص معروفين بأسمائهم، منهم اثنان يعيشان في الأردن، والثالث في الأراضي الفلسطينية، والرابع في النرويج. وحسب مسؤول المخابرات السابق، فإن التفاهم تم احترامه إذ «لم تحصل اعتداءات أخرى على الأراضي الفرنسية منذ نهاية عام 1983 وفي العامين التاليين». ومما قاله لقاضي التحقيق ونقلته صحيفة «لو باريزيان»: «في حال ارتكبوا عمليات إرهابية، في إيطاليا مثلاً، فإن هذا لا يهمني طالما أن شيئاً لم يحدث على الأراضي الفرنسية».

&