&أحمد الحناكي&

"أعاذلتي مهلا إذا ما تأخرت قوافلنا يوما فسوف تعود

ولا بد من ورد لظمأ تطاولت ليالي سراها واحتواها البيد".

بهذه الأبيات استهل رئيس وزراء السودان السابق الصادق المهدي (1986 – 1989) خطابه في ذات اليوم الذي تم فيه توقيع الاتفاق التاريخي بين المجلس العسكري السوداني وبين "قوى الحرية والتغيير".


كان يوماً تبارى فيه الكل من مختلف الأطياف السودانية أو الأفريقية في التعبير عن فرح كبير لم تشهده البلاد منذ 30 عاماً، عندما تم إجهاض الحكومة المنتخبة ديموقراطيا آنذاك، وكان المنتخب حينها ويا للمفارقة الصادق المهدي ذاته.

المشاعر والعواطف والتهليل والتكبير والزغاريد والتشجيع والتصفير، كلها رموز مختلفة حضرت مع إقامة الحفل، فالناس لم تصدق تلك النهاية السعيدة التي جابهت الكثير من المصاعب والخروق والضحايا. وحتى من صدّق منهم، ظن أن هذا المجلس سيسقط خلال يومين في بداية الثورة، أو أن الأمر سينفرط في النهاية ويصبح السودان كأي دولة أخرى مزقها "ربيع" أو "خريف عربي"، علماً أن أخطر ما يواجه هذا الاتفاق هو "الدولة العميقة" في السودان.

نشأ مصطلح الدولة العميقة أولاً في تركيا في تسعينات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية "علمانية" الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك، ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة العلمانية، وكان ذلك أول تعريف لمفهوم الدولة العميقة.

برزت بعد ذلك "المفهوم" تعريفات مشابهة في الولايات المتحدة مع إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. وبدا أن الدولة العميقة تتمثل في شبكات السلطة السياسية في واشنطن والسلطة الاقتصادية والمالية في وول ستريت، والتي تعمل على حماية مجموعة من شبكات المصالح المختلفة.

وتردد بعد ذلك مفهوم الدولة العميقة بين العديد من الدول، ولاسيما في منطقتنا العربية والإسلامية، خاصة بعد الانتفاضات العربية التي تعاقبت على العديد من العواصم العربية وما آلت إليه الأحداث. (إبراهيم السيد، "مركز الروابط").

انطلاقا من التعريف أعلاه، نستطيع القول إن السودان بتركيبته الحالية يواجه تحدياً كبيراً من قبل دولته العميقة، التي تضم أصحاب الإسلام السياسي في كل القطاعات من قضاة وقانونيين واقتصاديين ومحاكم وجمعيات ومراكز حيوية في الدولة، إذ من الممكن أن يواجه أي إجراء يهدف إلى تغيير جذري بعراقيل من قبل هؤلاء وغيرهم من المسؤولين الذين تجمعهم آيديولوجيا واحدة.

إذن، هناك معركةٌ يتوجب خوضها على من يريد التغيير. ولا يتأتى ذلك بسهولة، فمن المعروف أن رؤوس الدولة العميقة يجابهون أي تغيير بعنف غير قانوني، وبالطبع يساعدهم في ذلك تغلغلهم في في كل قسم أمني أو قضائي أو تعليمي أو اقتصادي، أي كل مفصل من أجهزة الدولة.

الجميل في الموضوع عموماً، هو صبر الطرفين اللذين وقعا الاتفاق ليخرجا بصيغته النهائية؛ فهما وضعا منذ البداية طريقاً واحداً نصب عيونهم، هو السلام فقط، فلا حرب لأن الاخيرة ستدمر أي مكاسب نالها السودان بإزاحته نظاماً جثم على صدر شعبه نحو 30 عاماً، وكانت نتيجته انقسام الدولة إلى دولتين وتدمير البنية التحتية واستنزاف مالي وهجرة للعقول الناجحة، وهذا ما يحدث عادة في بلد أي ديكتاتور لا يهمه إلا الحفاظ على الكرسي ولتحترق البلد بالنار.

ما تحقق هو نجاح، ولكنه من جهة نظري أسهل من القادم المليء بالتحديات تجاه ملفات شائكة كالخلافات مع الجيران، فضلاً عن الاضطرابات الكبيرة في أقاليم عدة، ناهيك عن فساد مستشرٍ صعب أن تزيله بين يوم وليلة.

المؤكد أن قلوبنا نحن العرب تبتهج اليوم سعادة لنصر إخوتنا السودانيين، متمنين لهم أن يبدأوا عهداً جديداً من النمو والتطور وانتشال الوطن من جبال من المشاكل وليس ذلك ببعيد عن عقول أبناء السودان وسواعدهم.