«غريس ١» ليست مضيق هرمز، ولا هي البرنامج النووي الإيراني، وأيضاً ليست برنامج الصواريخ الإيراني، بل هي ناقلة نفط أرادت طهران من خلالها نصراً إعلامياً «مزلزلاً» تحول فيما بعد الى مأزق كبير كبّدها الكثير، ولا يزال.


لا نبالغ إذا قلنا إن «غريس ١» هي واحدة من أكثر الفصول المؤلمة للنظام الإيراني في هذه الفترة إثر استنزافها قدراته في شكل لا يقل عن ملفاته الشائكة الأخرى.

القصة بدأت منتصف نيسان (أبريل) الماضي عندما تم تحميل الناقلة بأكثر من ١٣٠ ألف طن من النفط الخام الإيراني في شحنة متجهة إلى سورية (إيران تنفي تأكيد وجهة الناقلة)، وهو ما يشكل انتهاكاً لعقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة على سورية، وأيضاً في الجانب الآخر انتهاكاً للعقوبات الأميركية على صادرات النفط الإيرانية.

انطلقت الناقلة في رحلة أشبه برحلة استجمام في خط مغاير لأي من الخطوط البحرية المتبعة لدى طهران سابقاً، والتي تستغرق يوماً واحداً أو أكثر بقليل من خلال الدوران حول الجزيرة العربية، ومن ثم المرور في قناة السويس، ومنها الى البحر الأبيض المتوسط، الى أن تصل الى الموانئ السورية، بمسافة لا تتجاوز ٣٥٠٠ ميل بحري، لكن لظروف غير خافية، ولأهداف سنأتي على ذكرها لاحقاً، قررت طهران إرسال ناقلتها في رحلة تتجاوز ١٢ ألف ميل بحري حول أفريقيا، للالتفاف ودخول البحر الأبيض المتوسط من جهة مختلفة في طريقها الى سورية.

الناقلة تم احتجازها كما هو معلن لدى حكومة جبل طارق التابعة للسلطة البريطانية مطلع تموز (يوليو)، ثم تبعتها تحرشات إيرانية بناقلات بريطانية، ومن ثم قرصنة إيرانية لناقلة بريطانية في مياه الخليج العربي، وسعي إيراني لابتزاز بريطانيا.

الناقلة «غريس ١» التي احتجزت في جبل طارق قرابة خمسة أسابيع أُفرج عنها، على رغم مطالب واشنطن بتمديد احتجازها، وقيل إنها متجهة إلى اليونان.

اليونان من جانبها قالت إن موانئها لا تحتمل استقبال ناقلة بهذا الحجم. وبالأمس قيل إن الناقلة ستتجه إلى أحد موانئ «الحليف التركي».

الولايات المتحدة أصدرت مذكرة لضبط الناقلة، وحذّرت من تقديم أي تسهيلات لها، فيما أكد مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة ستفرض بكل حزم العقوبات التي أصدرتها، من أجل منع القطاع الخاص من مساعدة ناقلة النفط الإيرانية «غريس 1».

لا شك أن الناقلة والتعامل معها شكّل صفعة قوية لطهران، واستنزفتها في شكل لافت على الصعيدين الديبلوماسي والسياسي، في وقت يجد فيه النظام الإيراني نفسه وسط معمعة نتجت عن رعونة سلوكه في شكل عام، ناهيك عن الهدر المادي على الناقلة، سواء عبر جولتها الأفريقية والتي تعيد الى الأذهان جولات الرحالة العرب لاكتشاف المنطقة، أم على حمولتها والتي تقدر قيمتها بنحو 140 مليون دولار - بحسب ما ذكرته حكومة جبل طارق-، إلا أن السؤال المطروح حتى الآن، ما هو السر الذي دفع بطهران للعودة قرناً إلى الوراء.. إلى طريق كان معتمداً قبل افتتاح قناة السويس وتكبّد هذه الخسارة عوضاً الطريق الذي كانت تلجأ له على الدوام؟!

بغض النظر عن حجم السفينة وحمولتها وعمقها الذي جاوز ٢٠ متراً وإشكالية ذلك لعبور البحر الأحمر وقناة السويس، علينا العودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً عندما أفرجت حكومة جبل طارق عن الناقلة، إذ غرّد المتحدث باسم الحكومة الإيرانية علي ربيعي قائلاً: «ناقلتنا التي احتُجزت بشكل غير شرعي أُطلِقَ سراحها. هذا النصر دون تقديم أي تنازلات هو نتيجة ديبلوماسية قوية وإرادة قوية للكفاح من أجل حقوق الأمة»!

تصريح ربيعي يوضح لنا ملامح التفكير الإيراني، فربما النظام هناك اعتقد أن قيام حاملة النفط بجولة أفريقية وإمداد النظام السوري بالنفط سيشكّل خرقاً للعقوبات المفروضة على طهران، وبالتالي سيحقق من خلالها نصراً إعلامياً يربك حسابات واشنطن، ويزيد في الضغط عليها في باقي الملفات. لربما كان إيصال الناقلة الى الموانئ السورية سيحدث مثل هذا اللغط، لكن إن كان تفكير النظام الإيراني بهذه الهشاشة والرجعية، فهو بحق كارثة.

الإدارة الأميركية من جهتها وبينما تتبادل اتصالات «غير معلنة» مع طهران إلا أن ذلك لا يمنعها من إظهار المزيد من التشدد حيال هذه المخططات الفذة «غير المسبوقة»، بيد أن الإشكالية لم تنتهِ هنا، فإيران التي أنكرت سابقاً أن الناقلة تتبع الحرس الثوري، اعترفت أخيراً بأنها تابعة له، وهذه أيضاً تأتي من باب الاستعراض وللمزيد من الضغط، وعلى رغم أنها وقّعت تعهداً لحكومة جبل طارق سبق الإفراج عن الناقلة بأن لا تسلّم الشحنة الى سورية (عادت وأنكرت التوقيع على ذلك)، ولم تفصح حتى الآن عن وجهتها النهائية، وكما يبدو الآن بالنسبة للناقلة يرتكز المخطط الإيراني أو يراهن على وصولها الى المنطقة الخاضعة للنفوذ الروسي في البحر الأبيض المتوسط لوضع حدّ للمطاردة الأميركية، لثقتهم أو قناعتهم بأن واشنطن لن تصطدم مع روسيا من أجل ناقلة، لكن في الإطار الأشمل والأعم، تواصل طهران تصعيدها على جميع المسارات، سواء الإعلامي أم السياسي أم العسكري، وحول هذه تحديداً كشفت وزارة الدفاع الإيرانية أخيراً عن منظومة دفاعية أطلقت عليها اسم «باور ٣٧٣»، ادّعت أنها تتفوق على صواريخ باتريوت الأميركية و"إس ٣٠٠" الروسية، ثم ألحق النظام الإيراني هذا الكشف بتجربة صاروخية في تحدّ جديد للمجتمع الدولي، اللافت هنا هو تعمّد طهران الإعلان عن التجربة الصاروخية فيما كانت في السابق تتكتّم عليها، والغرض من السلوك الجديد كما هو واضح مزيد من الاستفزاز لواشنطن، والرد على تحذيراتها ودفعها لتقديم تنازلات، وأيضاً محاولة استغلال تباين مواقف الاتحاد الأوروبي وانقسامه والضغط عليه.

لم تُجْدِ حتى الآن أي جهود سلمية لردع النظام الإيراني عن سياسة الفوضى والدمار التي يسعى إليها وينتهجها، بل على العكس ذهب الى أبعد من ذلك ولمزيد من التصعيد، سواء في تهديده للملاحة في مياه الخليج العربي أم خفض مستوى التزاماته في الاتفاق النووي، لنصل الآن الى مرحلة التجارب الصاروخية والتلويح بتقديم مزيد من الدعم للجماعات الإرهابية التي تدعمها.

مع سلوك كهذا وعقليات مثل هذه تتقلّص فرص السلام في المنطقة يوماً بعد يوم، وتتضح النوايا الإيرانية وأطماعها أكثر فأكثر.. نحن ندرك ذلك، ترى هل يدركه جميع من حولنا؟!
&