ليس هناك من نظريّة عامّة وجامعة للدّولة تنطبق معطياتها النّظريّة والمفهوميّة على واقع أيِّ دولة؛ في أيّ مكانٍ وفي أيّ زمان. يوقعنا مثل هذا الافتراض المجرَّد في منزلقٍ نظريٍّ كبير بحيث يُعْجِزُنا عن فهم أنظمة دولتيّة عديدة لا تدخل هندساتها السّياسيّة الواقعيّة في قالب النّموذج الذّهنيّ المتكوِّن عن الدّولة في النّظريّة الخاصّة بها. والنّتيجة أنّ أكثر مَن يجدون أنفسَهم، في لحظةٍ من الدّرس، أمام هذه الحالة من إدراكهم الفارق بين النّظريّة العامّة وواقع الدّولة المدروسة، يسارعون إلى إصدار أحكام واستنتاجات لا بَيِّنة عليها، أَشْهرها ذيوعاً الحكمُ بأنّ الحالة المدروسة لم تبلغ بعد، في التّكوُّن والتّبلور، حالة الدّولة! وما أكثر ما قرأناه من هذا النّوع من الأحكام لدى كثير من الدّارسين - عرباً وغربيّين - من الذين تناولوا المجال السّياسيّ العربيّ بالدّرس. هكذا ينتهي هؤلاء، بمثل هذه الاستنتاجات، إلى إنهاء القول في الموضوع قبل أن يشرعوا فيه فعلاً!

نعم، من الصّحيح أنّ للدّولة مفهوماً نظريّاً مجرَّداً، ولأشياء الدّولة (السّلطة، نظام الحكم، الأجهزة، المؤسّسات...) وضعاً نظريّاً مفهوميّاً تُدْرَك من خلاله. لكنّ هذا التّمثُّل المفهوميّ للدّولة - وإنْ كان مبْناه على نموذجٍ ذهنيّ مجرّد - ليس برّانيّاً تماماً عن واقعها الماديّ، لأنّه تَمَثُّلٌ يكوِّن مادّته النّظريّة، في الأساس، من ملاحظة نماذج واقعيّة مختلفة من الدّول والسّلطات وأنظمة الحكم يبحث فيها عن السّمات المشترَكَة بينها التي منها يتألّف ذلك النّموذج الذّهنيّ. هذا يقتضينا أن نحسن التّمييز بين أمرين: بين مفهوم الدّولة، أي وضعها النّظريّ الاعتباريّ، والنّظريّة العامّة للدّولة؛ ففيما لا نملك التّفكير في الدّولة والمجال السّياسيّ إلاّ من طريق توسّل مفاهيم نظريّة عن الدّولة وأجهزتها، لا نستطيع افتراض وجود مثالٍ واحدٍ لها مستقى من نظريّة عامّة يُزعَم بأنها جامعة. أمّا حين ندقّق في موضوع هذه النّظريّة العامّة للدّولة باحثين عمّا عساها تكون، نكتشف أن المقصود بها - عند أكثر القائلين بذلك - نظريّة الدّولة الحديثة (الدّولة الوطنيّة) التي وضعتِ الفلسفة السّياسيّة الحديثة أساساتها التّنظيريّة ليُسْتكمل جَهْدٌ فكريّ واسع الميادين في صوْغ منظومتها الفكريّة لاحقاً.

والحقّ أنّ نماذج الدّول متعدّدة ومختلفة في التّكوين والهيئة، وفي مساحة النّفوذ والوَلاية السّياسيّة تبعاً لاختلاف شروط المكان والزّمان وأطوار التّاريخ، ولكن - أيضاً - تبعاً لاختلاف الثّقافات والخبْرات التّاريخيّة للشّعوب والأمم. لذلك يأتي نموذج الدّولة مطابِقاً للشّروط التي نَجَم فيها ومحكوماً بما تقضي به من أحكام. وهذا يعني، في جملة ما يعنيه، أنّ نموذجاً دولتيّاً مّا ليس برسم الاستعارة والاستخدام، من خارج موطنه وسياقه، إنْ لم يكن له ما يسوِّغه ويُبَيّؤُهُ عند المجتمع المستعير. نعم، هو يَقْبل التّوطين، أو الاحتذاء في الأوضاع المتشابهة بين البيئة الأصل لذلك النّموذج والبيئة التي إليها ينتقل ويستقرّ. لكنّه أبداً لا يكون ميسوراً ازدراعه في بيئةٍ نابذة، أي لا تشترك في السّمات والخصائص مع بيئته الأصل.

هذه، مثلاً، حالة فلاسفة الإسلام وفقهاؤه وكلاميّوه مع النّموذج السّياسيّ الإغريقيّ الذي تَعَرّفوه من كتب السّياسة عند أفلاطون وأرسطو. نفْهم لماذا رفضهُ الفقهاء، ولكن ماذا عن الفلاسفة الأقرب إلى الأغارقة وثقافتهم؟ ألم يجدوا أنفسَهم مدفوعين إلى تحوير نظام الجمهوريّة اليونانيّ ليتوافق والمجتمع الإسلاميّ لوجود تَجَافٍ بين البيئتيْن اليونانيّة والإسلاميّة؟ ولقد كان ذلك تحويراً شبيهاً بعمليّة جراحيّة قيصريّة. وإذا كان يسيراً رؤية علائم الفشل تلوح من تجربة الفلسفة السّياسيّة الإسلاميّة على صعيد بنائها النّظريّ لنموذجٍ مزيجٍ من نظاميْ العقل والإمامة، فكيف لا يكون يسيراً أن نقطع باستحالة قيام مثل هذا النّظام - الذي لم يقُم على كلّ حال - في ديار الإسلام؟

يمكن أن يقال ذلك في حالة أيّ فكرٍ يستعير فكراً سياسيّاً آخر من خارج بيئته الاجتماعيّة والثّقافيّة، مثل الفكر السّياسيّ العربيّ اليوم؛ فهل علاقة هذا الأخير بمنظومةٍ سياسيّة حديثة - برّانيّة - هي منظومة الدّولة الحديثة، هي عينها علاقة الفكر السّياسيّ الغربيّ بها (هو الذي وُلِدَ ونما في سياق تَكوُّنها وتَطوُّرها)؟ وهل منظومتُها المتحقّقة في الواقع الغربيّ قابلة للزّراعة السّياسيّة في البلاد العربيّة بكلّ يُسْر؟ هذه، جميعُها، أسئلة تدور على مسائل رئيسة من نوع اجتماعيات السّياسة وأثر البنيات الثّقافيّة في البناء السّياسيّ، ومدى التّشابه أو التّباين بين البيئات التي تقوم فيها الدّول، ومفعول قانون تفاوت التّطوّر بين المجتمعات...إلخ.

ما كان مونتسكيو على خطأ حين شدّد، في نهاية النّصف الأول من القرن الثّامن عشر، على أنّ الدّساتير نصوصٌ تعبّر عن نظامٍ من العوائد والقيم الثّقافيّة لدى شعوب تلك الدّول التي تُحْدِث فيها تلك الدّساتير. بالمثل لم يجانب هيغل الصّواب حين قرّر، في بداية القرن التّاسع عشر، أنّ الدّولة تعبير عن الأخلاقيّة العامّة وعن روح الأمّة. هذا يعني أنّ فكرة النّموذج المرجعيّ غير قابلة، دائماً، للتحقُّق إنْ لم تجد له شروط ذلك التّحقُّق في البيئة الموضوعيّة.