منذ بداية شهر رمضان يتابع رواد وسائل التواصل الاجتماعي وعدد من وسائل الإعلام الجزائرية العامة والخاصة، أوضاع الأسواق الوطنية، وبخاصة ظاهرة غلاء المعيشة التي لم يعد المواطنون يتحمّلونها جراء ضعف الدخل الفردي لفئات العمال والفلاحين، وحتى للطبقة الوسطى في المجتمع.

خلال هذا الأسبوع بدأت لهجة الإعلاميين المكلّفين إعداد التحقيقات الميدانية تتغيّر نوعاً ما، بسبب توزيع السلع الجزائرية التي تعدّ من الإنتاج الوطني المحض في الأسواق بأسعار مقبولة، استعداداً لعيد الفطر المقبل. ولاحظت إحدى الصحف الجزائرية الواسعة الانتشار، أنّ العائلات قد ملأت أسواق العاصمة بالبهجة أكثر من أي وقت مضى، وأقبلت على شراء الملابس المحلية لأبنائها.

الانتشار

في هذا السياق، يرى المراقبون الاجتماعيون أنّ السبب في انخفاض أسعار السلع المصنوعة محلياً يعود إلى الإجراءات التي اتخذتها الدولة، مثل ضخ الأموال لصالح الحرفيين الجزائريين الذين همَشّت منتوجات صناعاتهم المحلية على مدى أكثر من 30 عاماً جراء سياسات تشجيع وتغطية الدولة نفقات الاستيراد من تركيا والصين وفرنسا وإيطاليا بشكل خاص بالعملة الصعبة. ولكن هؤلاء لا يزالون يتخوفون من أن تكون ظاهرة نزول السلع الوطنية إلى الأسواق مجرد ظاهرة تمهّد فقط للانتخابات الرئاسية التي ستشهدها الجزائر في وقت قريب.

ويتساءل المراقبون، أين هي مصانع وورش صناعة الملابس المختلفة التي عرفتها الجزائر حتى في العهد الكولونيالي الفرنسي؟ وهل يعود سبب تدهور واختفاء مثل هذه الصناعات المحلية إلى انعدام المواد الأولية، أم إلى زهد الجيل الجديد في مواصلة جهود آبائهم وأجدادهم في مجال الصناعات التقليدية؟

بداية، هناك من يرى أنّ القرارات التي اتخذها الرئيس الحالي، عبد المجيد تبون، بوقف استيراد التجار البضائع من الخارج، تمثل يقظة إيجابية تصبّ في مصلحة حماية العملة الصعبة في الخزينة الوطنية، ويُنتظر أن يعطي تطبيق هذه القرارات النتائج المرجوة، وأن يؤدي إلى عودة المصانع الصغيرة والورش عبر الوطن إلى ساحة الانتاج.

وفي الواقع، فإنّ مشكلة تدهور وشبه موت الصناعات المحلية هو نتيجة لثلاث علل تكرّست في الحياة الجزائرية منذ حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، وتفاقمت أكثر في عهد عبد العزيز بوتفليقة على مدى 20 سنة كاملة، وتتمثل هذه العلل في انهيار التعليم المهني ومؤسساته، وفي فرض النهج الرأسمالي الذي أدّى إلى تضخّم حجم الاستيراد بالعملة الصعبة من طرف التجار وبدعم مالي غير مشروط من مؤسسات الدولة. أما السبب الثالث، فيعود إلى عدم الاستقرار السياسي الذي كاد أن يفتك بالدولة الوطنية طوال فترة الصراع على الحكم داخل المؤسسات السياسية والأمنية وبين هذه الجهات وبين الحركة الاسلامية الأصولية، الأمر الذي فرَّخ العشرية الدموية التي ذهب ضحيتها الآلاف من الجزائريين وأدخلت الحياة السياسية في نفق الفوضى وحكم شلة معروفة بفسادها المالي.

في فترة حكم الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وجماعته، تمّ إنشاء ما يُسمّى بوكالة تشغيل الشباب (أنساج) وأُسندت إلى أشخاص لم تكن لديهم معرفة بتوجّهات الشباب الجزائري أو بالحاجيات الحقيقية للمجتمع الجزائري أو بالبنية الصناعية الخفيفة الوطنية، وهكذا تمّ الترخيص لكل من هبَّ ودبَّ وأراد فتح محل أو إنشاء مؤسسة صغيرة أو القيام باستيراد البضائع من الخارج، حيث جرت تغطية نفقات ذلك النمط من الاستيراد الفوضوي بأموال ريع البترول والغاز.

وفي تلك المرحلة بالذات، وُجّهت طعنة قاتلة للصناعات التقليدية والخفيفة وفي صدارتها الصناعات الغذائية وصناعات الملابس والأدوات المنزلية، وكانت النتيجة اختفاء الحرفيين من واجهة الاقتصاد الوطني، ومع الزمن شاخ منهم من شاخ ومات من مات ولم تُنجز عمليات نقل تقنيات هؤلاء وحرفيتهم إلى الجيل لجديد.

أما التعليم المهني الجزائري، فقد ضُرب في العمق، وذلك عندما حُوّلت معاهد ومراكز التمكين المهني إلى مجرد معسكرات، تمّ إقحام التلامذة المتخلّفين دراسياً في مدارس ومعاهد الدراسة الإكمالية أو الثانوية فيها بلا أي تخطيط يُذكر. والأدهى هو إسناد وزارة التعليم المهني، الذي يفترض أنّه يشكّل العمود الفقري للتنمية الوطنية المتطورة في كل الدول المتقدمة، إلى مسؤولين مُخترعين اختراعاً لا علاقة لهم ببيداغوجيا المهنيات أو الصنائع، بتعبير مؤرخ العمران ابن خلدون.

لقد ساهم هذا الوضع الرديء في تفاقم مشاكل مؤسسات التعليم المهني، ما أدّى إلى تفريغها من محتواها. ومن الواضح أنّ أوضاع هذا النوع من التعليم لا تزال كما هي ولم تشهد حتى الآن أي تعديلات أو تغييرات جذرية، سواءً في معايير توجيه التلامذة إليها أو في تقنيات الصنائع الأكثر تطوراً في منظومات التعليم المهني في دول العالم المتقدّم. وفضلاً عن ذلك، فقد بقيت أساليب التأطير أو عصرنة برامجها الدراسية متخلّفة، وبسبب ذلك لم يعد التعليم المهني الجزائري مصدراً للثروة أو محرّكاً صلبا للتنمية الوطنية وشرطاً من شروط تقدّمها. وقد نتجت من ذلك عاهات كثيرة، منها على سبيل المثال، انعدام وجود المعماريين الأكثر علماً ومهنية ومعرفة جمالية في مجال المعمار الذي ما فتئ يشهد فوضى وقباحة عبر البلاد، مع الأسف.