ممكن تُجدّد وتُلمّع خارجك، مهما كانت التكلفة باهظة، فالتجميل متوفّر، والأصباغ والمة، إلا أن تجديد الداخل ثقيل على النفس لاحتشاد الصدر، واحتقان النفس، وتضخم القلب بذكريات ومواقف سلبية مستعرة، تركها تتراكم حتى غدا تجويفه الصدري مستودعاً للسكراب المصدّي.

و حقاً، بعض الناس صدره أشبه بمجلس مرتّب ومُطيّب، والبعض داخله أقرب لشقة فوضويين، مكركب ومحوّس ومدهوك بالمحاقر والثأرات، وهذا المُتعب، كيف تطلب منه أن يعيش العيد أو يتمثّله؟

يتساءل البعض، لماذا عيد زمان أجمل؟ ربما لأن إنسانية الإنسان كانت أكمل، أو أنها لم تتناقص بنسبة كبيرة، فالحياة كانت صعبة وبسيطة، والمستويات المعيشية متقاربة، وتفكير القروي «الفطري» في جاره ورفيقه وأخيه، أكثر من تفكيره في نفسه، والجارة عينها على ما ينقص جارتها، لذا تسألها ليلة العيد، لديك طحين لفطور العيد وإلا أقسم لك من طحيني؟! بينما حياة اليوم سهلة ومعقّدة، وبحكم الأنانية التي جعلت كل فرد يرى نفسه مركز الكون، تغيّرت النفوس والمشاعر وكل شخص يقول «ما أحد أحسن مني».

لا يصلح يوم العيد للنكد، ولكن التاريخ يؤكد أنه لم يمرّ على البشرية عيدٌ، خالياً تماماً من الهموم والأكدار «العامة والخاصة»، وقبل غزونا بالعصر الرقمي، كنا نعرف في القرية، شخصاً واحداً يتيماً فقد أباه أو أمه، ولذا كان من السهل علينا مواساته، وإشراكه في نشاطنا لننسيه بعض آثار وجع الفقد الذي يجدده يوم عيده، ولم نكن نظن أو نتصوّر أن هناك موتى وقتلى ومشردين بالعشرات بل بالمئات، إلى أن عرّت لنا وكشفت «السوشيال ميديا» عدد الحزانى والمكلومين فعرفنا أنهم أكثر مما تصورنا، ما صعّب علينا مواساتهم، ولعل بعضنا يقول «نواسي مَن ونترك مَن»؟

هناك عيد مفقود نحاول استعادته، ذلك العيد الذي كنّا ننتظره بفارغ الصبر واللهفة، لأنه يأتي مرّةً واحدة، متشحاً بالبياض، وعلى ثغره بسمة، مسنودة بأعذب الكلام وأنقاه، وصورته ناصعة تنزّ من إطارها بشائر الفرح، كان للعيد لون وطعم ورائحة، يومها كان الثوب الجديد يُتاح لنا يوماً واحداً في العام، «في الغالب» وكذا بقية الكسوة، وننام وملابس العيد تحت رؤوسنا حتى ما نتغالط في الصباح، ولنتفادى لخبطة الصحو المتوقعة.

كان «بانيو» الاستحمام «طشت»، وليفة التدليك «كفّ الأم أو الأخت»، والدش «إبريق نحاسي»، وموقع الحمام «خلف الزافر» وشرط الترواش التجرد من كل شيء، ولأننا نشعر بشيء من الحرج، وكثير من الحياء، لكوننا عراة أمام أنظار أهل البيت، نبكي متذرعين بأن رغوة الصابون دخلت في عيوننا.

يا لتلك النظافة التي كانت تكفينا لحول كامل، ويا لدفء تلك المنشفة، ويا لشذاها كونها نشّفت بلل أجساد عشرة أو أكثر في وقت واحد، ويا لاكتمال شعورنا بالرجولة ونحن نضع العُقل فوق رؤوسنا.

كانت السماء تشاركنا فرحة العيد، بزرقتها البديعة، وسماوات القرى في الأعياد صافية، والنهار مايسترو يوزّع الأدوار على جوقة البهجة، والرياح ساكنة، والطيور تحط فوق الشجر الممتد على طريق المُصلى لتعزف لأسماع العابرين تغريداً كأنه تهانٍ مموسقة، وكانت الجبال أشبه برجال في حالة خشوع، وكان صدى التكبيرات يُسمع من قرى مجاورة، فكأنما الرياح حنجرة تنقل الحداء التوحيدي من وادٍ لوادٍ، ومن سفح لسفح ومن رابية لربوة.

كان الفرح نابعاً من القلب، وروح التسامح تشع بشاشة من الوجه، وتفاعلاً حيوياً تعبّر عنه مكنونات الجَنان، أكثر من تعبير اللسان، وتنفتح بيوم العيد المشاعر، أكثر من انفتاح شبابيك وأبواب تهلّي وتسهّل وترحّب «بالمعيّدة»، فالأسر عائلة واحدة، والتحيّة تعمّ وتخصّ، وأعين وأسماع الأمهات ترصد «الذواقة» الذين سيمتدحون خبزها ومرقها وسمنها، وشيدة بيتها، ورائحة بخورها.

لا يستشعر البعض أن ليوم العيد لوازم ليكون عيداً حقيقياً، وجديراً بمسماه، فيتجاهل أن بياض القلب، أهمّ من الثوب الأبيض، ونقاء السريرة أولى من نقاوة الملابس، وعبق المودة، أقدس من أثمن العطور، ولو لطّخ أحدهم هنداماً ناصع اللمعان بفحم أو طين، أو طرطش عليه زفرة أو كدرة، لغضب صاحبه وأقام معركة، فعجباً ممن لا يقبل تلويثاً لمظهره، ويقبل بتلويث مخبره.

ولعل من مظاهر التناقض أن يردد البعض أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فيخفي من الضغينة ما لا يبديه، ولأنه عاجز عن التصالح مع نفسه، فهو أعجز عن التصالح مع الدِّين أو مع المسلمين، ويغدو أشبه بجهاز «روبوت» يحتضن ويقبّل ويسلّم ويضم يهنئ بعبارة «كل عام وأنتم بخير»، إلا أنها كلمات بلا وزن ولا مذاق ولا مشاعر بل مصنوعة ومزورة، لا تعبّر عن مكنون فؤاد مُشرق.

لو سألنا أي مسلّم أيهما أقوى علاقتك بالله، أم بالشيطان؟ لأجاب، بأنه متعلّق بالله، وعلاقته به أقوى، إلا أن استجابته للنوازع والتحريض الشيطاني أكثر، ومؤسف أن حصيلة البعض من الصيام والقيام، تجهّم وغلظة ونرفزة واحتقان، والإنسان إنما يعطي العيد معناه، بقدر ما اكتسب من شحنة أخلاقية في شهر الأخلاق، وتتجلى في العيد نشاطاً وتواصلاً وتعاملاً.

تضيقُ وتتسع مساحة الفرح، بقدر ما في دواخلنا، من رضا وطمأنية، ويوم العيد مرآة ينعكس فيها كل الأداء الرمضاني الحسي والمعنوي، والأسوياء ينشدون حياةً وحالاً أفضل، والفرح قرار فردي، لكنه يتطلب مجهوداً غير عادي، فالعبادة ليست مقررات تُلَقَّن، ولا تعاليم تُحْفَظ، ولا حركة تُمارس، ولا طقوساً تؤدى، بل ضمانات وتعهدات مع النفس، لإعلاء الجانب الخُلقي، الذي بدونه يستحيل أن يغدو المسلم متديّناً بالفعل.

هل فقد العيد معناه؟ أم فقدت الأشياء نكهتها ولذتها؟ أم أن المستورد طغى على المحليّ والوطني من مشاعرنا فغدت مستوردة، ومصنّعة وليست طبيعية؟ لا أوّد أن أستشهد بمشاهد يومية يتأنسن فيها الحيوان، بصورة متسارعة، وأخشى على إنسانية الإنسان من الحيونة.

كنا على علاقة وطيدة ببعضنا، ومثالية جداً في عاطفتها الجياشة، غير المُتكلفة، فالأخ يموت كمداً على فراق أخيه، والقريب لا يهنأ بمنام لو صاب قريبه كرب، واليوم أكثر من يقف، ويتصدى لك، ويعنّت حياتك، ويشمت بمصابك «قريبك»، وما أمراض الأبدان، إلا دليل على علّة الوجدان.

لو قال قائل، هذا عيدنا عاجبك، وإلا روح دوّر لك على عيد بمواصفات ذاكرتك الرجعية، فسأقول، معك حقّ، فالعيد استذكار واعتبار وامتنان وافتخار، وينبغي برغم كل أوجاعنا ومتاعبنا أن يكون العيد مصدر اعتداد واعتزاز بهذا الوطن الآمن والعيش الكريم والعاطفة التي تجمعنا وتحملنا مسؤولية الحفاظ على الكيان، ونصيحتي، للي ما عنده قدرة يفرح ويتسامح يوم العيد، فأحسن له يرقد، فنوم الظالم عِبادة.

وكل عام وأنتم بخير.