تناولت كثير من المؤسسات المالية الدولية ومركز الأبحاث فرضية أن تؤدي العقوبات الاقتصادية التي تفرضها أميركا إلى تآكل هيمنة الدولار في التبادلات الاقتصادية الدولية، وعقب غزو روسيا جارتها أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الغربية ضد موسكو، صرحت قيادات بارزة في صندوق النقد الدولي بأن نظام العقوبات يهدد بزعزعة هيمنة الدولار واحتمالات تشظي النظام المالي الدولي، ومع الإقرار ببقاء قوة الدولار إلا أن التصريحات رشحت انتشار بدائل مالية للتهرب من هيمنة الدولار.

وخلال العقد الأخير يبدو واضحاً هذا المنحى في التبادلات الاقتصادية العالمية، إذ تزداد تطلعات بعض الدول ذات الثقل العالمي في تحدي هيمنة الدولار، وأبرزها الصين التي تعمل جاهدة لإيجاد بدائل للمنظومة المالية السائدة من خلال اعتماد صفقات تجارية بالمقايضات أو العملات الوطنية أو الرقمية والمشفرة.

ولم تفلح العملة الصينية حتى الآن في تشكيل بديل للدولار لعدم قابلية سعرها للاستبدال الحر، عوض المستوى المنخفض نسبياً لثقة المستثمرين بالمؤسسات المالية الصينية.

وفي الواقع فإن فرضية أن تؤدي العقوبات إلى تقويض هيمنة الدولار الأميركي في الاقتصاد العالمي تظل معقدة وتشمل اعتبارات جيوسياسية واقتصادية ومالية، فلطالما كان الدولار هو العملة الاحتياط الرئيسة في العالم، ولعب دوراً مركزياً في التجارة الدولية والتمويل.

ويستند الوضع العالمي للدولار إلى حجم وقوة الاقتصاد الأميركي وعمق وسيولة الأسواق المالية الأميركية والثقة في النظام السياسي والقانوني الأميركي، ومن هنا استخدمت أميركا نظام العقوبات مثل القيود التجارية وحجب الأصول لتحقيق أهداف سياستها الخارجية وأمنها القومي، إلا أنها حققت النجاح حيناً والإخفاق في أحايين أخرى، كما تقول الخبيرة الاقتصادية الفرنسية أغاثا ديميري في كتابها "نتائج عكسية: كيف تعيد العقوبات تشكيل العالم ضد المصالح الأميركية".

وتقدم الكاتبة نموذجاً لنجاح العقوبات الأميركية ضد إيران عام 2012 حينما أقنعت إدارة الرئيس أوباما منظومة "سويفت" للتعاملات المالية بوقف التعاون مع نظام طهران، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد الإيراني بعد عام من بدء العقوبات ودفع إيران نحو التوصل إلى الاتفاق النووي.

إلا أن أميركا سرعان ما عادت لتفتح الأبواب للنظام الإيراني من خلال تخفيف العقوبات، فاستغل النظام العائدات المالية الكبيرة التي جناها في تمويل التنظيمات الإرهابية وتطوير الأسلحة وفق نظرته التوسعية في المنطقة.

وخلال العقد الماضي فرضت إدارة الرئيس السابق ترمب حزمة من العقوبات على النظام الإيراني حتى برزت تحالفات محور الصين وإيران روسيا وكوريا الشمالية، لتحتمي طهران ومشاريعها التدميرية خلف أعداء أميركا الذين كانوا ولا يزالون يبدون استعداهم لبناء تحالفات دولية ضد أميركا ونفوذها العالمي.

واليوم بلغت صفقات إيران مع شركائها عشرات المليارات من خارج النظام المالي الدولي، وبهذا فمن المتوقع أن تزداد عدائية النظام الإيراني في زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي وتهديد حلفاء أميركا في منطقة الشرق الأوسط، مما يستدعي مراجعة منظومة العقوبات الدولية والتحقق من نجاعتها في ردع التطلعات التوسعية للنظام المارق في طهران.

محور القرصنة والتهرب
يقول تقرير نشرته الخبيرتان الاقتصاديتان كيمبرلي دونافان ومايا نيكولادزه في "المركز الأطلسي" نهاية الشهر الماضي إن عائدات النفط هي الشريان الذي يغذي النظام الإيراني، ومع أن منظومة العقوبات الدولية حدت من قدرة طهران على بيع النفط والحصول على العوائد، إلا أنها وجدت ضالتها للتهرب من العقوبات الدولية في الصين، إذ قامت إيران خلال العام الماضي بتوجيه 90 في المئة من صادراتها النفطية إلى الصين، الدولة التي طورت معها نظاماً للتبادل التجاري يتجاوز منظومة البنوك والشحن الدولية،

واستطاعت بكين وطهران بناء سوق بديلة للنفط المعاقب من خلال التبادل بالعملة الصينية، حيث ينقل النفط عبر ما يسمى ناقلات "أسطول الشبح" الإيرانية التي تعمل خارج أنظمة الملاحة الدولية، وتتخذ خطوات عدة لإخفاء عملياتها، مثل إيقاف تشغيل أنظمة تحديد الهوية الأوتوماتيكية الخاصة بسفنها أثناء نقل حمولتها إلى سفن أخرى، ويتم ذلك في المياه الإقليمية الماليزية وفق تقارير دولية.

وبمجرد وصول شحنات النفط الإيراني المعاقب إلى الموانئ الصينية تعاد تسميتها كنفط ماليزي أو شرق أوسطي، وتحول إلى مصاف صغيرة تقوم بتكرير 90 في المئة من النفط الإيراني بعد أن توقفت المصافي الصينية الرئيسة عن القيام بذلك خشية العقوبات الغربية.

أما عوائد النفط الإيراني المعاقب فتحول إلى بنوك صينية صغيرة مثل "بنك كونلون" الذي وضعته وزارة الخزانة الأميركية ضمن العقوبات الأميركية عام 2018 لتسهيله التحويلات المالية لمصلحة إيران، مما يمكنها من شراء البضائع والمنتجات التكنولوجية الصينية.

وتقول البيانات التي تناولها تقرير المركز الأطلسي إن إيران اشترت أجهزة وآلات ومعدات صينية بما قيمته 2.12 مليار دولار خلال عام 2022، إضافة إلى 1.43 مليار دولار من الإلكترونيات، وتصر الصين على عدم نشر البيانات المالية لتجارتها البينية مع إيران، كما لا ينشر البنك المركزي الإيراني أية بيانات عن تكوين عملته من الاحتياطات الدولية.

هل تدعم الصين عدم الاستقرار؟
تقترح أغاثا ديميري في كتابها جملة من الخطوات التي يمكن للمجتمع الدولي اتباعها حتى تنجح العقوبات المفروضة على الدول المارقة مثل إيران، ومن بينها تحديد الأهداف من العقوبات وتحقيق أكبر قدر ممكن من الإجماع والدعم متعدد الأطراف لتحقيق أهداف العقوبات، مشيرة إلى فشل تجربة العقوبات الغربية المفروضة على كوريا الشمالية، إذ إن 90 في المئة من تجارتها الخارجية تعتمد على الصين.

وتقول الكاتبة إن العقوبات الغربية تؤتي ثمارها في تلك الدول الشريكة اقتصادياً مع الغرب، وتسوق مثالاً على ذلك بما تجريه العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركية ضد تركيا لإطلاق القس الأميركي أندرو برونسون، وبنظرها فلا جدوى للعقوبات الغربية على الدول التي لا ترتبط بعلاقات اقتصادية معها، ومن هنا فإن منظومة العقوبات الدولية المفروضة على إيران لا جدوى منها، خصوصاً بعد أن وجدت دولة الملالي شريكاً وازناً مثل الصين تتهرب من خلال مؤسساته وصناعاته ومنظومته المالية من العقوبات الغربية، ولكن في المقابل فإن الصين ومكانتها الاقتصادية العالمية كشريك فاعل في منظومة العلاقات القانونية والتجارية والاقتصادية الدولية تدرك تماماً خطورة تعاملاتها مع دولة مثل إيران، مما يضعها في طائلة العقوبات لانتهاكها الصريح بنودها المتوافق عليها دولياً ولتهربها من الالتزام بها، فالصين ترتبط بشكل كبير مع الدول الغربية بمصالح اقتصادية وتجارية واسعة، وليس من مصلحتها دعم دولة مثل إيران في مقابل بضعة مليارات من النفط المعاقب.

ومع أن الصين دولة عظمى تحكمها القوانين وملتزمة بالمواثيق والعهود الدولية وذات تأثير واسع في العلاقات الدولية، وبسلكها طريق خرق منظومة العقوبات الدولية وتسهيل حصول دولة مارقة مثل إيران على الموارد الكفيلة بزعزعة الاستقرار والأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، مع إدراكها سجل إيران الخطر في انتهاك الاتفاقات الدولية لعدم الانتشار النووي ودعمها للمنظمات الإرهابية المنتشرة في كثير من الدول العربية، وانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان، وتورطها في نشر العنف المنفلت في المنطقة، كما أن مصالح الصين مع الدول العربية واسعة ومتعددة الجوانب ومليارية العوائد، وهي مرشحة للتطور والتوسع والازدياد خلال الأعوام المقبلة، فهل تدرك قيادتها الدور الذي تلعبه طهران في المنطقة انطلاقاً من مبادئ التوسعية الخمينية ضد الشعوب العربية والإسلامية؟