من حسن الحظ أن أغلبية المتابعين في الغرب للشؤون العربية لا تبني أحكامها علينا وعلى ما يجري في بلداننا مما يبث يومياً عبر منصات التواصل الاجتماعي، بل إن القرارات والتعاملات العربية الرسمية لو أنصتت لمعظم المتداول على هذه المنصات الغارقة في التطاحن، والحروب المختلقة، والترويج لصراعات متخيلة، لأصبحنا جميعاً في مهب الريح.

لا يمكن لأحد أن يجادل في قيمة مساحات التعبير التي أتاحتها منابر التواصل الاجتماعي، ولا في أهمية دورها بما يتوفر لها من تقنيات وسرعة وذيوع، وهي مميزات عززت دورها المكمّل لوسائط التعبير التقليدية. وفي مقابل ذلك، وبعد استثناء الحسابات الرسمية المعبرة عن قيادات ودوائر رسمية مفهومة الوظيفة والتوجهات، وعن شخصيات ومؤسسات لها اعتبارها، فإن هذه المنابر يغلب عليها الجموح، والجنوح إلى افتعال الأزمات.

ونادراً ما تجد حوارات عقلانية بين مرتادي هذه المنصات يغيب عنها تبادل الشتائم والتخوين والتعصب ليس فقط للدين والوطن والنسب، بل حتى لأنواع العطور والتفضيلات الفنية والرياضية، إلى آخر وأصغر ما يمكن أن يختلف فيه شخصان أو مجموعتان أو أكثر.

شجّع على ذلك في البدايات سهولة التخفي بأسماء مستعارة أو صور غير حقيقية، لكن السفاهات لم تعد حكراً على المجهولين وينافسهم فيها غيرهم بوجوه مكشوفة ودرجات علمية لا تعرف من أين جاءت.

لا يمكن التبرير بطول فترات الكبت في بعض المجتمعات والسعي إلى تعويضها بأي سبيل، ولا التهوين من أثر هذه الممارسات بالقول إنها مجرد مناوشات افتراضية لا امتداد لها في الواقع.

ولا يمكن فصل أغلب ما يجري في هذه المنابر عن سعي بعض الجماعات لإذكاء نار الفُرقة فيها، ورفع مناسيب التجزيء والتفتيت، وزيادة عدد ما يمكن الاختلاف عليه، وتنويع معاني المسميات وما تعبر عنه من قيم روحية ووطنية. وبين ذلك كله، يسهل «تجنيد» عقول لا تقبل الاختلاف، أو لا تتصور وجوده، وترى في كل ما تعتقده حقاً مطلقاً، و«تحييد» عقول أخرى تحمست طويلاً للنقاش وخاضت فيه، لكنها طوردت بالشتائم والتشويه لإخراجها من المشهد.

لذلك، فإن الغلبة الآن في هذه المساحات للأكثر قدرة على السب والاختلاق والاستجابة لوسوسة الجماعات المشبوهة التي لا تريد أن يمضي يوم بغير اشتباك بين شعبين، أو طائفتين، أو مشجعي فريقين كرويين، أو لاعبين، أو مطربين، وصولاً إلى افتعال أزمات بين الدول، واختلاق نصوص أحاديث بين سياسيين، أو تحميل أي قرار أو تصرف ما لا يرمي إليه..

وإذا لم تجد هذه الجماعات وتابعوها في الوقائع اليومية ما يعينها على إشعال خلاف، تلجأ إلى الماضي تفتّش في دفاتره وتعيد روايته ورسم حدوده والإساءة إلى صناعه، أحياء وأمواتاً، من باب الاستفزاز..

كل ذلك لا يعني ترك هذه المساحات لصناع الفتنة، لكن ثمن المواجهة كبير، وجزء منه استثمار طويل الأجل في عقول قادرة على التمييز.