الحروب لا تترك شيئاً على حاله، تخرب وتدمر وتقتل وتغير القناعات وتبدل المواقف وترفع دولاً وتهبط بأخرى، آثارها لا تقتصر على الدول المتحاربة فقط ولكنها قد تمتد إلى العالم كله، وهو ما لمسناه خلال السنوات الأخيرة من أزمات اقتصادية واجتماعية ودبلوماسية أفرزتها الحرب في أوكرانيا، وما نلمسه حالياً من آثار الحرب الإسرائيلية على غزة، وتوابع ارتدادات هذين الحربين لا تقتصر على ما لمسناه فقط، ولكنها ستتواصل عقوداً، وقد تغيّر في خريطة القوى العالمية، وتفرز جديداً في خريطة التحالفات.

الحرب الإسرائيلية على غزة ليست كغيرها من الحروب، تغيرت المواقف بشأنها وأحدثت انقلابات في مواقف الشعوب والحكومات وأجهزة الإعلام، وكثير ممن كان مع إسرائيل أصبح ضدها؛ ففي السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي احتشد العالم الغربي خلف إسرائيل داعماً ومدافعاً عن «حقها في الدفاع عن النفس»، وتحوّلت تل أبيب إلى مزار لكبار قادة وساسة العالم الذين هرولوا إليها، ووضعوا ترساناتهم العسكرية وخبراتهم ومخابراتهم وإعلامهم في خدمتها. إسرائيل انتقمت وتفننت في الانتقام، استخدمت كل السلاح المتاح، قتلت الرضع والأطفال والنساء وأخرجت الناس من بيوتهم بدعوى تأمينهم لتقتلهم على الطرقات وفي مراكز الإيواء، جوّعت وانتهكت وأبادت، حاصرت المرضى والمصابين وعذّبت الأسرى، عرقلت الإنقاذ، قتلت إعلاميين وكوادر طبية، لاحقت الناس ولم تترك لهم مكاناً يهربون إليه، ولم تكتفِ بقتل المدنيين بل قتلت القادمين من حول العالم لإغاثة أهل غزة وآخرهم فريق «المطبخ المركزي العالمي».

أمام كل ذلك كان طبيعياً أن تثور الشعوب وتتظاهر حماية لما تبقى من إنسانية في غزة، ونتيجة تمادي إسرائيل وتحت ضغط المظاهرات تغيرت مواقف دول، ومن كان يشجع إسرائيل على القتال أصبح يطالبها بوقف إطلاق النار، مطلب نطق به كل لسان دبلوماسي أياً كانت ميوله واتجاهاته، بعد أن تجاوز رد الفعل الإسرائيلي المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، العالم كله صرخ مطالباً بوقف الحرب، ولكن إسرائيل لم تسمع وواصلت القتل وهو ما وضعها في عزلة دولية.

بعد أن هرول إليها كبار العالم لم يعد يزورها سوى وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، من وقت لآخر في إطار جولاته بالمنطقة بحثاً عن مخرج للأزمة التي سببتها إسرائيل لنفسها وللولايات المتحدة التي اهتزت صورتها عالمياً نتيجة تصلبها سياسياً ومنعها العالم بالفيتو من مجابهة إسرائيل، لترضخ في النهاية وتلتزم الصمت تجاه القرار الأخير الذي اتخذه مجلس الأمن لوقف الحرب وأيدته 15 دولة وامتنعت أمريكا وحدها عن التصويت عليه، وهو تطور مهم في أمريكا التي فقدت كثيراً من مصداقيتها داخل المؤسسات الدولية؛ بسبب انحيازها غير المقبول عالمياً لإسرائيل، وبعد أن تكشف للرأي العام العالمي ازدواجية الموقف الأمريكي الذي يطالب بهدن ويعطي سلاحاً، يتحدث عن حلول ويوفر لإسرائيل كل ما يلزمها لمواصلة القتال.

في كل الصراعات والحروب يكون العالم منقسماً ما بين مؤيدين لهذا الطرف ومؤيدين لذاك حسب مصالح وعلاقات الدول بالطرفين أو الأطراف المتصارعة، أما الحرب الإسرائيلية على غزة مثلما هي متفردة في أعداد الضحايا وكمية السلاح، ومتفردة في أساليب التعذيب التي تفننت إسرائيل في استخدامها ضد أهل غزة، فهي أيضاً متفردة في الموقف العالمي الذي توحد تجاه ضرورة وقف الحرب وفتح كل المنافذ لإدخال المساعدات لهذا الشعب الذي يتعرض للإبادة.

العالم توحد وإسرائيل أصبحت في عزلة، وهي العزلة التي يمكن أن تطول بعد أن فقد الرأي العام العالمي ثقته بها، وأدرك أن ترويجها عدم العيش في أمان مجرد ادعاءات، وتيقن أنها صانعة عدم الأمان في المنطقة وسبب أساسي لعدم الاستقرار. صورة إسرائيل اهتزّت أممياً، وتجاوزت دبلوماسيتها عدة مرات في حق مسؤولي المنظمة الدولية وفي مقدمتهم أمينها العام أنطونيو غوتيريش بسبب مواقفه الرافضة للحرب، كما تجاوزت في حق كل مسؤول دولي نطق بالحق ودان هذه الحرب وطالب بوقفها وشجب عرقلة إدخال المساعدات ولم يتقبل الحملة على «الأونروا» التي تغيث ملايين اللاجئين، كما تجاوزت في حق منظمة العدل الدولية؛ بسبب حكمها المتعلق بالإبادة الجماعية، وبسبب أمرها قبل أيام لإسرائيل «بضمان توفير مساعدات إنسانية عاجلة لقطاع غزة، الذي صارت المجاعة فيه أمراً واقعاً»، كما تجاوزت في حق باقي المنظمات التابعة للمؤسسة الدولية التي اتخذت مواقف منددة بالعدوان والحرب والتجويع وانتشار الأمراض والأوبئة وحصار المستشفيات وهدر حقوق الإنسان.

كما اهتزت صورة إسرائيل عالمياً، وأصبحت أمام الرأي العام العالمي دولة عنصرية ترفض منح الفلسطينيين حق إقامة دولتهم، واهتزت أيضاً أمام ساسة العالم وداعميها بعد أن أصبحت مصدر صداع لهم، ولم يعد بإمكانهم التغطية على جرائمها المتداولة عالمياً. إسرائيل في عزلة دولية ومخططها بشأن رفح سيزيد عزلتها عالمياً حسب تحذيرات الخارجية الأمريكية، والحكومة الإسرائيلية في عزلة داخلية بعد أن أصبح أهالي الرهائن والمتعاطفون معهم يطاردونها بالتظاهرات المتنقلة من بيت نتنياهو لوزارة الدفاع، ومن القدس إلى تل أبيب ومدن أخرى، والخروج من العزلتين سيستغرق سنوات وسنوات، مثلما أن إعادة بناء وإعمار غزة سيحتاج إلى سنوات.