باستمرار الحرب وما تولده من صور للمعاناة تغيب فيها كل المعاني الإنسانية، تبدّد أمل هدنة في رمضان كان ينتظر قبله أن تمثل استراحة للفلسطينيين في غزة وفرصة لاستعادة مذاق الحياة ولو مؤقتاً خلال أيام الشهر الفضيل.

ويبدو أن أيام العيد ستمضي على إيقاع المعاناة نفسها، فلا نهاية تبدو في الأفق، وحتى الهدنة التي تمثل منذ فترة غاية ما تتمناه الأطراف المعنية وتنقضي من أجلها الساعات بين عواصم مختلفة، لا تزال رهن التأرجح بين التفاؤل والتشاؤم، والتحقق والضياع، والتشدد والمرونة من هذا الطرف أو ذاك.

كم من مرة سربت فيها المصادر أن الصيغة النهائية من اتفاق الهدنة على وشك التوقيع ثم نفاجأ بعدها بأن الوفود تحزم حقائبها وتغادر، وحين كانت معظم الأطراف تعلن أن لا انفراجة قريبة، كانت المفاوضات تستأنف ومعها تتجدد آمال الهدنة.

ومع تعدد الجولات بغير الوصول إلى نتيجة، ربما لم يعد الفلسطيني في غزة يعير اهتماماً لمآلات التفاوض حول الهدنة وشروطها، خاصة أن تفاصيل يومه لم تستفد شيئاً حتى الآن، فلم يحدث أي تغيير في واقعه الإنساني والصحي والغذائي، بل إن الأسوأ في الانتظار باتفاق مؤسسات دولية.

مع قدوم العيد، لا ينتظر الفلسطينيون في غزة خبراً عن الهدنة إذا أقرها المتفاوضون حولها، لأنها لن تحمل أياً من مظاهر المناسبة السعيدة، فالحياة التي تنمحي معالمها في القطاع منذ أكثر من ستة أشهر لن تستعيد معانيها بين يوم وليلة، ولن تسترجع من فُقدوا.

أن تأتي الهدنة مع العيد، وأن ترجح كفة المتفائلين هذه المرة، فهذا جيد باعتباره منطلقاً لمراحل أخرى تواري كل مظاهر «خيانة الإنسانية» المتوفرة في الحرب على غزة، وهو توصيف مارتن غريفث، منسق الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة.

هذه «الخيانة» تعني أن عيد الفلسطينيين في غزة وغيرها في الداخل والخارج يلزمه الكثير غير الهدنة، وأن مظاهره لن تنهض بين بقايا بشر ووطن ما لم يكن الطريق واضحاً إلى المستقبل بشروطه التي تعني قراراً فلسطينياً موحداً، وإنهاء تعدد التبعيات والمرجعيات. وتعني هذه الشروط أيضاً ضميراً عالمياً منصفاً لا تنال منه تحولات السياسة وتعدد تفسيراتها للحق باختلاف أسماء الجناة والضحايا في كل قضية أو حسب المواسم الانتخابية.

العالم بحاجة إلى تكفير طويل عن خياناته للمنطقة وقضاياها وليس مجرد هدنة في غزة على أهميتها، وأن تتحول خيبات المنظمات الدولية وشهادتها المهمة على سقوط القانون الدولي في الاختبار مجدداً إلى رغبة حقيقية في الإصلاح الذي تتحقق معه العدالة المفترضة.

هذه الشهادات لعبت دوراً في تعرية الممارسات الدولية في غزة، وصرخات مسؤولي المنظمات الدولية ربما أجبرت ساسة غربيين على تبني خطاب مغاير من قبيل قول بريطانيا على لسان وزير خارجيتها إنها لا تقدم لإسرائيل دعماً غير مشروط. وترجمة ذلك إلى سياسات تبدو بعيدة وتحتاج إلى خطوات أكبر من هدنة العيد.. إن جاءت.