لم يخطر في بالي أبداً أن يوماً سيأتي وأقرأ فيه دليلاً سياحياً من ألفه إلى يائه. فالدليل السياحي، على غرار القاموس، هو كتاب نلجأ إليه للاستفسار عن موقع، أو معرفة تاريخ معلم أثري أو متحف، ونعيده إلى مكانه على رفوف المكتبة. لكن الدليل الضخم الذي وضعه مؤخراً أندريس ترابيلّو عن مدينة مدريد يشذّ عن القاعدة المألوفة التي تسير عليها هذه الكتب، إذ هو أيضاً سيرة ذاتية للكاتب تتداخل فصولها وأحداثها مع المعلومات المفصّلة عن شوارع العاصمة الإسبانية، ومعالمها، وأحيائها، وشخصياتها والمعلومات التاريخية عنها. ولا أعتقد أن ثمّة مبالغة في القول إن هذا الجانب من الدليل لا يقلّ جاذبية عن الكمّ الهائل من المعلومات الدقيقة التي يزخر بها، لا بل قد يزيد عليها.

في ربيع عام 1971 ترك ترابيلّو مسقط رأسه في قشتالة بعد سنوات من العلاقات الصاخبة مع والده، وقرر أن يستقرّ في مدريد حيث كانت تقطن تلك الصبية التي يقول إنها حبّه الأكبر. لكن يتبدّى من الصفحات الأولى، التي يصف فيها بداياته في مدريد والتي وصلها خاوي الوفاض وراح يكسب قوته من بيع الكتب في الحانات والفنادق الأنيقة؛ أن هذه المدينة أنسته ذلك الحب الكبير وما عقبه من علاقات غرامية، حتى ارتباطه بالمرأة التي هي اليوم شريكة حياته ومصدر سعادته، على حد قوله.

يستحيل الفصل بين تاريخ مدريد وسيرة الكاتب الشخصية في هذا الدليل الذي وضعه ترابيلّو بأسلوب ظريف وساخر وعفوية أخّاذة، خالياً من الغرور والحقد والحسد، حتى في أقسى الوقائع والأحداث التي يرويها ويصفها. معلومات وافرة ومسلّية عن مدريد، يحتلّ فيها الكتّاب والأدباء والشعراء موقع الصدارة، وترصّعها أخبار طريفة ونوادر عن شخصيات غريبة تجول في شوارع المدينة وتتسكّع في أزقتها ودهاليزها، وتدفعك إلى التساؤل حول ما إذا كانت شخصيات حقيقية أو طالعة من خيال الكاتب الذي أسرته هذه المدينة وقرر أن يعيش فيها، «مدريديّاً» كغالبية سكانها الذين شهدوا النور خارجها. والمتعارف عليه هنا، هو أن الذي يولد في مدريد «لا يعطى أي حق»؛ لأن كل شيء فيها هو ملك لجميع ساكنيها. وهذه حقيقة صارخة: نحن المدريديين جئنا من كل أرجاء الدنيا، أما سكانها الأصليون، الذين يعرفون بالقطط، فقد أصبحوا مجموعة يتضاءل عددها، وهي راضية بوضعها كأقلية؛ لأنها تعرف أن هذه المدينة نشأت على يد العرب الذين أسسوها بوصفها حامية لطرق التجارة حول طليطلة إلى أن قرر الملك فيليب الثاني أن يجعل منها مقرّ بلاطه في عام 1561.

منذ ذلك التاريخ راحت المدينة تنمو وتتسع وتزدهر بشكل يتألق ترابيلو في وصفه، مركزاً على سكانها الذين يقول إنهم يتحدرون من شخصيات غالدوس أكبر المؤرخين لمدريد في رواياته الشهيرة. ولا ننسى أن غالدوس، الذي يتكرر ذكره كثيراً في الكتاب، كان من جزر الكناري، ورغم ذلك كان أفضل من كتب عن مدريد، وربما أكثر من أحبّها، كما نعرف من رواياته ومقالاته الرائعة التي نقلت لنا واقع العاصمة الإسبانية في القرن الماضي.

لكن رغم إعجاب ترابيلو الشديد بمدريد، فهو ميّال أكثر إلى أرباضها التي أمضى ساعات طويلة يتمشّى فيها ويصف مفاتنها الطبيعية برقة متناهية. ولعله الوحيد الذي أمضى أربعين عاماً يتردد كل أحد على سوق «راسترو» الكبيرة، حتى عندما كانت مقفلة خلال جائحة كوفيد. نجد في كتابه فصلاً كاملاً عن هذه السوق الفريدة التي كان يعرف معظم تجّارها والزبائن الذين يترددون عليها كل أسبوع يبحثون في حوانيتها عن الفرائد والغرائب.

يقول ترابيلو إنه يفضّل مدريد الرومانسية على غيرها من الأحياء، ويؤكد أن غالدوس هو الذي يجسّد أفضل من غيره هذه المدينة لأسباب عديدة يعرضها علينا بشواهد كثيرة ومقنعة. لكني لا أستصوب رأيه بشأن بعض الكتّاب مثل خوان رامون خيمينز الذي يحظى بشهرة هي دون موهبته وقدراته الأدبية. هذا الموقف كان سبب التباين الوحيد مع أستاذي الفاضل كارلوس بوسونيو عندما كنت أتابع دراسة الدكتوراه في جامعة مدريد المركزية، ويملي علينا محاضراته الرائعة حول الشعر وأسراره الدفينة التي كان يكشفها بسحر أمام طلابه المتلهفين لسماع كلماته التي ما زال الكثير منها محفوراً في ذاكرتي. لكنه كان من المعجبين بخوان رامون خيمينز الذي لم أتمكن أبداً من قراءته بشغف، أو حتى بحماس، ولعل هذا من عيوبي وليس من نواقص أستاذي. ترابيلو هو أيضاً من المعجبين به ويقتبس العديد من نصوصه عن مدريد عندما كان من سكانها. كما هو معجب بكتّاب آخرين ساهموا بمؤلفاتهم في رسم معالم أسطورة مدريد، مثل باروخا، ولارّا، وميسونيرو رومانوس، وغوميز دي لا سيرنا وكلارا كامبو آمور، وأومبرال وغيرهم كثر، فضلاً عن الرسّامين الكبار من عيار غويا وفيلاسكيز وسورويا، أو نقّاد مشهورين مثل خوان أنطونيو غايا الذي يلجأ إلى الكثير من مقتطفاته.

ولعلّ القصة الأجمل التي يرويها في كتابه الحافل بالقصص والنوادر، هي عن اكتشافه لمتحف رومانسي أمضى فيه فترات عديدة، وحيداً في معظم الأحيان. اكتشفه خلال إحدى نزهاته اليومية في مدريد التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من كيانه. كان المتحف خالياً من الزوار معظم الوقت، على مدخله حارسان أصبحا من أصدقائه. وكانت قاعات المتحف في حالة يرثى لها تغطّي خيوط العنكبوت معظم محتوياتها. وبعد أن تحادث عدة مرات مع مديرة المتحف راح يتردد عليه طيلة أشهر في الصباح وبعد الظهر، يكتب قصائده ورواياته وبحوثه. إنها صفحات أخّاذة، مكتوبة بأسلوب رقيق ونوستالجي يصف لنا شغف الكاتب الشاب بهذا المتحف الذي تجمعه به الوحدة، والذي قررت أن أقوم بزيارته في أقرب فرصة.

نادراً ما أنصح قرّائي بكتاب معيّن، لكني في هذه المرة سأخرج عن هذه القاعدة، وأدعوكم إلى قراءة هذا الكتاب الذي يرسم أجمل صورة، وأدقّها، لسكان مدريد، الأصيلين والدخلاء، وأنا على يقين من أنه سيبقى محفوراً في ذاكرتكم.