أذكى الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، المخاوف السائدة من هشاشة الأوضاع العالمية، عندما اعتبر أن فرضية اندلاع حرب شديدة الخطورة في أوروبا لم تعد ضرباً من الخيال، وأن حلف شمال الأطلسي «الناتو» يواجه مستقبلاً ضبابياً، وأن بقاءه مرهون بمن يسكن البيت الأبيض الأمريكي.

لم تفاجئ تصريحات بوريل أحداً، ولا تحمل جديداً، غير أنها صدرت عن أكبر مسؤول سياسي وأمني أوروبي، وتأتي معاكسة لسلسلة من المواقف التي طالما تغنت بقوة الاتحاد الأوروبي ومناعته وصلابة حلف «الناتو» وقدرته على هزيمة خصومه، وبمتانة العلاقات الاستراتيجية بين دول الاتحاد والولايات المتحدة، وكل الغرب السياسي الممتد إلى أستراليا واليابان، لكن في الأشهر الأخيرة، بدأت هذه الثقة والمكابرة تتصدع وتتزعزع بسبب التداعيات السيئة للتقهقر الأوكراني أمام القوات الروسية.

وقبل أيام قليلة، اعترف رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك، بأن على الأوروبيين «الاعتياد على حقيقة أن عصراً جديداً قد بدأ، وهو عصر ما قبل الحرب»، وبالنبرة نفسها، قال وزير الدفاع البريطاني، غرانت شابس: إن العالم ينتقل من حالة «ما بعد الحرب إلى حالة ما قبل الحرب». ومثلما تترجم هذه الاعترافات بعض ما يسود من قلق وترقب في الشارع الغربي، تؤكد أيضاً أن الأوضاع العالمية بدأت تفلت من قبضة الغرب وتتخذ مسارات لم تكن متوقعة قبل سنوات قليلة، ولا ترجع أسباب ذلك إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا فحسب، وإنما إلى الإحباط المتعاظم من تضخم الأزمات العالمية، وسقوط مصداقية النظام الدولي في أكثر من محنة وامتحان، أحدها العجز غير المبرر عن وقف العدوان الإسرائيلي على غزة، بينما يستأسد هذا النظام على من لا يغرد في صفه.

من مؤشرات القلق الواضحة في المعسكر الغربي، تنامي الانقسامات بين دوله وأحزابه ومنظماته، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يعاني انفصاماً سياسياً وأمنياً خطيراً، فإن بريطانيا، التي غادرته على أمل استعادة مجد غابر، باتت في مأزق استراتيجي حاسم وتحاول التحرر منه بطرق شتى. وضمن هذا المسعى، جاءت زيارة وزير خارجيتها ديفيد كاميرون، إلى الولايات المتحدة ولقاؤه في فلوريدا المرشح الجمهوري دونالد ترامب، قبل ذهابه إلى واشنطن للقاء أركان إدارة الديمقراطي جو بايدن،. وتناول اللقاء الخاص بين كاميرون وترامب مستقبل حلف «الناتو»، وضمان استمرارية الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وهما مشكلتان كبيرتان، يتجه المرشح الجمهوري الأوفر حظاً في العودة إلى البيت الأبيض للحسم فيهما، إذ يرفض ضخ مزيد من الأموال للحلف أو لمواجهة روسيا.

وما يفاقم التوتر الأوروبي أن عودة ترامب المحتملة قد تسدد ضربة لا يمكن تدارك تأثيراتها على تماسك التحالف بين ضفتي الأطلسي، وعلى صمود أوكرانيا، التي فقدت أغلبية الدعم الغربي، وباتت أقرب من أي وقت إلى الهزيمة الساحقة أمام روسيا.

حالة الحرب التي تعيشها أوروبا، ليست وليدة اليوم، بل كانت منذ أزمة القرم عام 2014، فما تشهده القارة من استنزاف اقتصادي جرّاء التضخم وكلفة المساعدات المقدمة إلى أوكرانيا، وبسبب تأثيرات العقوبات المفروضة على روسيا، ربما يكون أشد وقعاً من الحرب ذاتها، التي تظل مستبعدة في المدى المنظور على الأقل.