من السابق لأوانه التنبؤ بنوع الرد الإيراني وطبيعته على الضربة التي وجهتها إسرائيل إلى محيط قنصليتها في دمشق، والتي أدت إلى مقتل عدد من قياديي "فيلق القدس". فقد يطول بحث إيران في خياراتها تحسباً لرد أميركي وإسرائيلي مشترك لن تكون قادرة على تحمل نتائجه، ناهيك بما يمكن أن يشكله ذلك الرد من تهديد لهيمنتها في المنطقة. كما أن من المستبعد أن يتكرر سيناريو الرد الإيراني على مقتل قاسم سليماني في العراق عام 2000.

فإسرائيل ليست في حاجة إلى أن ترد الاعتبار إلى إيران، كما كانت حال الولايات المتحدة التي كانت تخشى أن تؤدي الرغبة الإيرانية في الثأر لمقتل سليماني إلى عمليات انتقامية تقوم بها الميليشيات الموالية لإيران ضد قواعدها العسكرية في العراق. كما أنها (أي إسرائيل) وسط ضجيج آلتها الحربية في غزة مستعدة لتوجيه ضربات في اتجاهات مختلفة. ولن يكون أمام الولايات المتحدة من خيار سوى المشاركة عن بعد في توجيه تلك الضربات، وبخاصة إذا ما قدمت إيران مسوغات واقعية لتدخل أميركي مباشر في المنطقة. كل هذا يسمح لإيران بالتعامل ببطء مع مسألة، قد لا تكون ملحة مقارنة بما يمكن أن تقود إليه من خسائر لا يمكن تعويضها.

ما جرى وما يجري في غزة يؤكد أن حكومة نتنياهو قد اجتازت منذ اليوم الأول للحرب كل الخطوط الحمر التي تفرضها قواعد الاشتباك، وهي ماضية في تحقيق أهداف لم تعلنها بعد، لذلك فإن إشعال حرب إقليمية محدودة سيكون وسيلة للتغطية على تلك الأهداف.

السلوك الإيراني لن يتغير

دائماً كانت إيران تتراجع عن تشددها حين تدرك جدية الخصم وإصراره على إلحاق الأذى بها. ولأنها تملك اليوم مصالح متشعبة في المنطقة لا يمكنها التضحية بها من أجل مقتل قياديين في الحرس الثوري يمكن تعويضهما بعدما اعتُبرا شهيدين، فإنها قد تضيف تلك الخسارة إلى قائمة الخسارات التي سيكون عليها أن تنتظر فرصة التفاوض عليها. وإذا كان حسن نصر الله صريحاً حين اعتبر مسألة الرد خياراً إيرانياً خالصاً، فإن أي رد فعل لم يصدر عن الميليشيات العراقية التي لا تحتكم إلى حساسية الوضع المحيط بها كما يفعل نصر الله الذي يعرف أن حرباً صعبة سيدفع ثمنها لبنان مجدداً قد تطيح تفوق "حزب الله" على الأطراف اللبنانيين الآخرين وتنهي تسلطه على الدولة التي صارت تتقلب بين خيارات فشلها.

طبعاً لن يكون ضرورياً لأحد أن يُعرف موقف تلك الميليشيات من المسألة التي يبدو أنها لا تقلق الكثيرين ممّن اختبروا السلوك الإيراني، غير أن من المقلق فعلاً أن تلجأ إيران إلى تكليف الميليشيات العراقية الرد عن طريق استئناف عمليات القصف هجوماً على القواعد الأميركية، بعدما توقفت خوفاً من قوة الفتك الأميركي وتنوع أساليبه بعد مقتل جنود أميركيين قبل أشهر. وليس القلق هذه المرة مرتبطاً بردود الفعل الأميركية المباشرة فحسب، بل أيضاً بما يمكن أن يشكله اضطرار إسرائيل إلى الرد على عمليات القصف التي تكرر الإعلان عن وصولها إلى أراضيها، برغم أن ذلك الإعلان قد تم من طرف واحد ولم تعلن إسرائيل أن شيئاً من ذلك قد حدث.

المبالغة التي تقتل صاحبها

إذا كان إعلان الميليشيات العراقية قصف العمق الإسرائيلي يعبر عن حقيقة ما جرى فعلاً، فإن امتناع إسرائيل عن الرد يستند إلى واحد من أمرين: إما أن يكون ذلك القصف غير مؤثر ولم تنتج منه خسائر بشرية ومادية، أو أن إسرائيل تنتظر الموافقة الأميركية على الرد. ذلك لأن العراق لا يزال يقع في منطقة الوصاية لأميركية. الأمر الأول هو الأكثر احتمالاً. فلو أن إسرائيل ضُربت فعلاً وتم إلحاق الأذى بها لسارعت الولايات المتحدة وردت قبل أن ترد إسرائيل.

كعادتهم، فإن العراقيين يبالغون في قيمة ما يقومون به ورمزيته. وهي مبالغة لها علاقة بالانفصال التاريخي بين ما هو نظري وما هو عملي بمعنى المسافة التي تفصل بين الفعل والقول. هناك نوع من الوصف الشعري لحدث غير منفصل عن صورته المتخيلة. وكما هو معروف فقد دفع العراقيون أثماناً باهظة نتيجة تعلقهم بأوهام البطولة والتفوق والفروسية والتي كانت في الجزء الأكبر منها تتناقض مع الواقع وهي عاجزة عن خلق واقع مجاور. وكما أتوقع فإن اشتباك مصالح الميليشيات الشيعية في العراق بالمصالح الإيرانية صار هو الأساس لكل ما يحيط بوجود الميليشيات من أخبار وشائعات ليست صحيحة كلها، غير أنها تملك مَن يروّج لها ويدافع عن أباطيلها. وقد تكون كذبة العداء الإيراني للكيان الصهيوني من أكبر تلك الأباطيل التي قد يدفع العراقيون ثمنها لا الإيرانيون. فليس مستبعداً أن تُكلف إيران ذيولها في العراق بالرد على إسرائيل ثأراً لها.

الميليشيات والتضحية بالعراق

واقعياً فإن الميليشيات إذا ما عزمت على تنفيذ ما يُملى عليها إيرانياً فلن يهمها في ذلك رأي الحكومة العراقية. كما أن تقديرات الميليشيات لا تُقام على أساس حسابات واقعية. فليس مصير العراق على سبيل المثال يدخل ضمن تلك التقديرات عاملاً حاسماً. فمن الممكن أن تقوم تلك الميليشيات بأفعال ليس في إمكان العراق أن يتحمل عواقبها. فعراق اليوم بلد ضعيف، ليس لأنه غير قادر على الدفاع عن نفسه، فذلك أمر لا يحتاج إلى شرح بل لأنه بلد مسلوب الإرادة وهو لا يملك أن يقرر شيئاً حتى على مستوى اختيار حكومته. وإذا ما قلنا إن العراق دولة افتراضية فإن ما تفعله الميليشيات الموالية لإيران على أراضيه يؤكد ذلك. فالعراق على سبيل المثال يمكن أن يقع أكثر مما هو عليه الآن لو تعرضت إيران لقصف إسرائيلي أو أميركي. ذلك وضع صعب لا يمكن التغاضي عنه، ولكن الميليشيات وقد وضعت المذهب قبل الوطن لا ترى ما يعيب في التضحية بالوطن.