يعدّ إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883-1951) من أبرز وأهم مؤسسي مدرسة الاستشراق الروسي، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، وهو الذي شغف منذ شبابه المبكر بدراسة اللغة العربية والتاريخ الإسلامي، وزار مصر وسوريا ولبنان وفلسطين، بحثاً عما في خزائن مكتباتها القديمة من مخطوطات نادرة، انكبّ على تحقيقها ونشرها. وأشار مرة إلى الصعوبة التي واجهته عندما قصد المشرق أول مرة، معتقداً أن لغته العربية الفصحى التي تعلمها في بلاده، ستكون قاطرته للتفاهم مع من سيلتقيهم، ليفاجأ بأن السائد في التعامل اليومي هو اللهجات المحلية التي لا يحسن معرفة أي منها، حتى إنه قصد «ضيعة» لبنانية منعزلة، كي يتعلم من أهلها اللهجة المحلية، رغم طبيعة شخصيته التي وصفها بالانطوائية، لكنه أحبّ أهل الضيعة وأحبّوه.

وروى في ذلك بعض الطرائف، ذكرتني بما سمعته من أستاذ روسي متمكن من العربية الفصحى عن أول طرفة واجهته حين وصل مطار القاهرة في أول زيارة له لبلد عربي، حين سأله أحد سائقي التاكسي الذين ينتظرون الزبائن خارج مبنى المطار: «حضرتك عاوز عربية؟»، فظنّ الرجل أن السائق يسأله عما إذا كان يفهم اللغة العربية، فكان أن أجاب عن سؤال السائق: «نعم أعرف اللغة العربية»!

من الذين التقاهم كراتشكوفسكي من الأدباء العرب كان أمين الريحاني، اللبناني الداخل في الدائرة التي عُرفت باسم أدباء المهجر، وضمّت، بالإضافة إليه، جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وآخرين. وقد بهر المستعرب الروسي بالريحاني وقدراته، وحين صدر للأخير كتاب ضمّ مجموعة من مقالاته وأشعاره، تولى كراتشوفسكي تعريف القارئ الروسي بها، فأصدر كتاباً ترجم فيه بعض كتابات الريحاني، وبالنظر إلى التوقيت الذي صدر فيه الكتاب في فترة فاصلة من تاريخ روسيا، وبالضبط قبل أسبوعين من ثورة أكتوبر الاشتراكية، لم ينل ما يستحقه من اهتمام أمام موجة التغييرات العاصفة في البلد.

وجد الكتاب طريقه إلى الريحاني، ما أثار غبطة المترجم الذي تسلم في عام 1928 رسالة دافئة من الريحاني كتبها في بلدته بوادي «الفريكة» في لبنان. وبعد مرور أربعة أعوام نشر كراتشكوفسكي «رسالة الملائكة»، واحدة من هجائيات أبي العلاء المعري، ولم يحدث أن وجد هذا الإصدار «مثل الصدى الذكي الذي أثاره لدى ناسك وادي الفريكة»، كما يقول كراتشكوفسكي، الذي كتب إليه قائلاً: «إني باسمي، وباسم منشئ اللزوميات أشكركم وأدعو لكم بطيب الإقامة في هذه الفانية، وإن كاتب هذه السطور، صديق المعري في الفريكة، يُحيّي صديق المعري في ليننغراد، ويدعو له بالصحة والسعادة، وبدوام التوفيق في البحث والتنقيب، خدمة للآداب العربية والروسية، وتمكيناً لروابط الإخاء والسلام بين الشعوب».