يُشار في الكلام العاديّ - وأحياناً في الخطابات العالِمة بما فيها الخطاب القانونيّ والحقوقيّ - إلى حقٍّ ما فيُنْعَت بأنّه حقٌّ طبيعيّ، ولكن من غير أن يقف القائل أمام التّسمية ليتبيّن وجهَ الصّواب في استخدامها، أو ليبرّر مشروعية ذلك الاستخدام، الأمر الذي يوحي، معه، وكأنّ الاستخدام ذاك هو عينه ما يبرّر تلك المشروعيّةَ! والغالبُ على الاستخدام العموميّ الدّارج لمفهوم الحقّ الطّبيعيّ أنّ أصحابه مطمئنّون إلى المعنى الذي تفيدُهُ العبارة اطمئناناً لا يخترقه شكّ؛ وهذا، من غير شكّ، موقفُهم مع مفاهيم أخرى عدّة يتداولونها من غير أن تستوقفهم للتّفكير في ما عساها تعنيه على وجه الدّقّة.

وحين نبحث عن ذلك المعنى الذي تفيده تلك العبارة في أذهانهم، نجد أنّ المقصود عندهم بالحقّ الطّبيعيّ أنّه حق ثابت لا يحتاج إلى تبرير ولا إلى برهانٍ عليه. يُعَزّز هذا المعنى ما يوجد، في الاستخدام العام، من تداخُلٍ بين ما هو في حكم الطّبيعيّ من الأمور وما هو في حكم البديهيّ، ومن ذلك، مثلاً، توسُّل عبارة الطّبيعيّ لوصف ظواهر أو علاقات عقليّة ومنطقيّة في الكثير من أحوال الكلام، من قبيل القول إنّه من الطّبيعيّ أن يكون الكل أكبرَ من الجزء، أو أن تكون المبادئ القبليّة سابقة للتّجربة والاكتساب... وما في معنى ذلك من تقريراتٍ عقليّة.

هل يوجد فعْلاً ما يَقْبَل أن نطلق عليه اسمَ حقوق طبيعيّة؛ وما عساها تكون هذه الحقوق ولماذا هي طبيعيّة، أو ما معنى أن تكون طبيعيّة؟ هذا يأخذنا، رأساً، إلى فلسفة السّياسة لأنّها البيئة التي نشأ فيها هذا المفهوم وإليها تعود أصوله النّظريّة.

استند القائلون بالحقّ الطّبيعيّ إلى وجود قانونٍ طبيعيّ اعتبره أرسطو القانون الأعمّ في الوجود. وهكذا فإنّ انتظامَ الطّبيعة وكائناتِها وموجوداتِها على مقتضى قانونٍ حاكمٍ وثابت يعني، عند هؤلاء القائلين به، أنّ النّاس الذين يحكمهم هذا القانون يُمتِّعهم، في الوقت عينِه، بحقوقٍ يوفّرها لهم مثل الحقّ في الحياة وفي الحريّة وفي المساواة؛ وهذه حقوق سابقة في الوجود لقيام الدّول والقوانين. وقد سخّر اللاهوتيّون المسيحيّون هذا المفهوم الفلسفيّ اليونانيّ منذ القدّيس أوغسطين حتّى القدّيس توما الأكويني، مع تكييفٍ لاهوتيّ له قضى بأن يُنْظَر إلى ذلك القانون الطّبيعيّ بوصفه تعبيراً عن إرادة الله. هكذا أصبحت عدالة الله وحدها قمينة بأن تضمن هذه الحقوق التي منحتْها للنّاس. من الواضح، إذن، أنّ للمفهوم أصولاً في الفلسفة اليونانيّة وفي اللاّهوت المسيحيّ، وأنّ مضمونه الذي اكتسبه منهما استمرّ قائماً حتّى العصر الحديث. وهذا ما يشهد عليه استمرارُ استخدامه حتّى الآن كلّما دار حديثٌ في مسألة الحقوق.

ولقد استُعيد استخدام مفهوم الحقّ الطّبيعيّ في الفلسفة السّياسيّة الحديثة ابتداءً من كتابات هوبس في نهاية النّصف الأوّل من أربعينات القرن السّابع عشر؛ حيث نعثر عليه كثيفَ الحضور عنده كما عند غيره من فلاسفة العقد الاجتماعيّ: جون لوك، سپينوزا، جان جاك روسو. غير أنّ علاقة الحقّ الطّبيعيّ بالقانون الطّبيعيّ ظلّت عندهم محلَّ خلافٍ بين مَن طابقوا بينهما (لوك وروسو)، ومَن ذهبوا إلى ملاحظة ما بينهما من تعارُضٍ أحياناً (هوبس، سپينوزا). لكنّهم أجمعوا على ما بين قوانين الطّبيعة وقوانين العقل من تَطابُق.

وليس من شكٍّ في أنّ تشديد الفلاسفة المحدَثين على هذا المفهوم كان له كبيرُ أثرٍ في تشديد دساتير الدّول الحديثة عليه. هكذا نُصَّ على الحريّة والمساواة بوصفها حقوقاً طبيعيّة في ديباجة الدّستور الأمريكيّ، وأعيدَ النّصُّ عليها، بعد ذلك، في إعلان الثّورة الفرنسيّة لحقوق الإنسان والمواطن، ومنهما انتشر المفهوم في نصوص الدّول الحديثة. وما كان السّبب في ذلك أنّ أفكار لوك استُلْهِمت في الدّستور الأمريكيّ، وأفكار روسو استُلْهِمت في الثّورة الفرنسيّة، بل في إجرائيّة مفهوم الحقوق الطّبيعيّة التي هي خارج كلّ مجادلةٍ أو تطوُّر. ولعلّ أَظْهر دليلٍ على ذلك أنّ المفهوم هذا ظلّ رائجاً إلى منتصف القرن العشرين: على ما يشهد على ذلك ورودُهُ في فصول عدّة من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (1948).

لماذا استعادتِ الفلسفةُ السّياسيّة الحديثة - ومعها الثّوراتُ الكبرى الحديثة - هذا المفهوم فأعادت توظيفه ليعنيَ معاني جديدة لم تَدُر في أَخلاد الأقدمين؟

فعلتْ ذلك لأنّها توسّلت هذا المفهوم سلاحاً للرّدّ على فكرة الحقّ الإلهيّ الذي استخدمتْهُ الكنيسة والملكيّات المطلقة في أوروبا استخداماً استهدفَ القول إنّ حقّ حُكم الباباوات والملوك على الرّعيّة ممنوحٌ لهم من الله، أتى مفهوم الحقّ الطّبيعيّ، إذن، ليُبْطِل القولَ بما قال به البابا والأمير، من جهة، وليقطع الطّريق - من جهةٍ أخرى - على مصادرة الحقوق من النّاس من طريق إثباتهم لها من حيث هي حقوق طبيعيّة: قائمة بمحض وجود النّاس، وسابقة لوجود الدّولة والكنيسة ومَن يتولّون الأمور فيهما. بهذا المعنى فتح استخدامُ مفهوم الحقّ الطّبيعيّ الباب أمام المصير إلى مفهومٍ جديد سيكون له عظيمُ الشّأن منذ إعلان الثّورة الفرنسيّة (1789) هو مفهوم حقوق الإنسان.