في كتابه «الرحلة الثامنة» الصادر في بيروت عام 1979، كتب جبرا إبراهيم جبرا يقول: «أغلب الظنّ أنّ ما يكتب اليوم من شعر ونثر يزيد عما كان يُكتب في أي فترة من فترات التاريخ العربي»، والأرجح أنّ جبرا كتب هذا القول قبل سنوات من صدور كتابه المشار إليه الذي ضمّنه إياه.

قد يأخذ البعض على جبرا ما أورده بعد هذا القول، ويرون أنّه كان فيه متحاملاً، حين أضاف: «ولئن يكن المستوى في بعض الحالات رفيعاً، خليقاً بأمة ناهضة، فإنّه يكاد يكون معدوماً في معظم الحالات، فبين قطب البلاغة الكلاسيكية التي ما زالت عزيزة على المتمسكين بالأسلوب (القديم) وقطب الهذر السقيم الذي لا يخلو منه أي عصر، نجد الجزء الأكبر مما يكتب بالعربية اليوم، مراهقاً، تافهاً، لا عضل له ولا عصب».

الحق أنّ جبرا حرص على عدم التعميم، حين رأى في بعض الأدب أنّه «خليق بأمة ناهضة»، فبالإضافة إلى «الهذر السقيم»، «والمراهق التافه»، كان هناك، في الفترة التي كتب فيها جبرا هذا القول، إبداع مهم سواء في الشعر والقصة والرواية، خاصةً أنّنا صرنا ميالين لوصف الكثير من رموز تلك المرحلة بالرّواد في مجالات إبداعهم.

للأمر جانب آخر، سنرى فيه أنّ جبرا كان محقاً في قسوته في الحكم على ما رآه، يومها، هذراً سقيماً، ولنا أن نسأل: هل يكون رأى في ذلك مرحلة عابرة في تطوّر الأدب، سيجري التحرّر منه لاحقاً، لصالح ما هو حقيقي وأصيل وخلّاق، أم على العكس، خطر في باله أنّ هذه الظاهرة ستتفاقم في المستقبل، وعنينا بالمستقبل العقود القليلة التي تلت ما قاله يومها، وبتنا نحن اليوم فيها، حيث يدور الحديث عن «إسهال» الكتابة واستسهالها، خاصةً مع فوضى سوق النشر في راهننا الثقافي. ما على «الكاتب» سوى أن يدفع للناشر كلفة نشر مخطوطته مضاعفة، لتصبح كتاباً، وهو داء لا يقتصر على كثير من دور النشر الجديدة التي لا معايير مهنية يعتد بها في عملها، وإنّما تورطت فيه، ويا للأسف، دور نشر رصينة وعريقة، أتحفتنا، في مراحل سابقة، بروائع الفكر والأدب، سواء أكانت لكتّاب ومبدعين عرب، أم مترجمة من اللغات الأخرى.

ربما يحملنا هذا على السؤال عما إذا كان الذي يجري في دنيا التأليف والنشر العربية هو سمة للزمن الذي نعيشه، الحرّ من الكثير من الضوابط والمعايير التي كانت متبعة في السابق، والذي بات النشر على وسائل الاتصال الاجتماعي أحد مظاهره، وبالتالي لا تصحّ محاكمته وفق الرؤى التي اعتدناها فيما مضى، فرغم فوضى النشر واستسهاله، هناك إبداع حقيقي لأجيال جديدة يضيف للمنجز السابق ويغنيه.