يوماً بعد يوم تزداد القناعة بأن الاستثمار في الإنسان، وذلك بتأهيله وتعزيز قدراته، وتطوير كفاءاته العلمية والعملية، هو المدخل الأساسي لكسب رهانات التنمية المستدامة، وتعزيز الجاهزية لمواجهة مختلف المخاطر والتحديات الراهنة والمستقبلية في عالم سمته التنافس والتشابك والصراع.

فقد أكدت الممارسات والتجارب الدولية، أن التقدم الذي حققته الكثير من بلدان العالم لم يكن صدفة، بل هو نتاج طبيعي ومتدرج لتراكمات، ومؤشرات يأتي على رأسها امتلاك مقومات العلم والمعرفة، وإرساء منظومة تعليمية متطورة ومواكبة.

إن تعزيز وترسيخ الممارسة الديمقراطية داخل المجتمع، وكذا تحقيق تنمية مستدامة قادرة على تلبية احتياجات الحاضر والمستقبل، ترتبطان في جزء كبير منهما على جودة التعليم ومخرجاته، فهذا الأخير هو القادر على تنوير العقول، وترسيخ القيم ونشر العلوم، وتمكين النشء من اكتساب المعارف والمناهج، والانفتاح على تحولات المحيطين الوطني والدولي بأبعادها العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

لقد أحدث انتشار التكنولوجيا الحديثة ثورة حقيقية، طالت مختلف المجالات والميادين، بعدما وفرت بتقنياتها فرصاً حقيقية لتطوير الأداء وتحقيق الجودة، وهو ما أصبح يسائل الكثير من القطاعات كالإدارة والتجارة والخدمات في عدد من الدول التي ما زالت تعيش على إيقاع الفجوة الرقمية، لأجل ركوب قطار التكنولوجيا كسبيل لتعزيز التنافسية في عالم متغير ولمواجهة المستقبل بقدر من الجاهزية.

تشير الكثير من الدراسات الاستراتيجية، إلى أن العالم مقبل على كثير من التحديات، سواء تلك الناجمة عن تلوث البيئة وانتشار الأوبئة، أو ندرة المياه ومصادر الطاقة، علاوة على بلوغ عدد سكان الأرض ما يناهز 10 مليارات نسمة مع حلول عام 2050، ثم تنامي التنافسية الاقتصادية، والنزاعات المسلحة وصراعات الاستقطاب في سياق تبدلات النظام الدولي الراهن.

ومع التطورات المذهلة التي لحقت التكنولوجيا الحديثة، تتصاعد الأسئلة المقلقة بشأن مستقبل منظومة التعليم عبر العالم ومدى قدرتها على التفاعل الإيجابي مع التحولات المجتمعية، ومع الإشكالات التي بات يطرحها الذكاء الاصطناعي، وبشأن طبيعة ومضامين التكوين القادر على تعليم وتأهيل أجيال حتى تكون مستعدة لاقتحام سوق العمل الذي أصبح يتطور بشكل سريع، حيث أبرزت الكثير من التقارير العلمية أن عدداً كبيراً من الوظائف والمهن ستختفي في المستقبل، فيما ستبرز أخرى جديدة.

يعد التعليم من ضمن الروافد الكفيلة بصنع المستقبل، أخذاً بعين الاعتبار للإمكانات البشرية والتقنية والمالية المتاحة، وللتهديدات والمخاطر المختلفة، والتي تتطلب اليقظة وإعداد جيل مؤهل وعلى قدر كبير من الكفاءة التي تتيح له كسب المعارك الاستراتيجية، واقتحام عدد من الوظائف والمهام العابرة للحدود والتخصصات.

في الوقت الذي سارعت فيه الكثير من الدول إلى اقتحام المستقبل عبر توطين التكنولوجيا والاستفادة من مختلف الإمكانات التي تزخر بها في مجالات الطب والتعليم وتدبير المخاطر، وفي تطوير البنى التحتية، وإحداث جامعات ومعاهد متخصصة بمجالات الذكاء الاصطناعي والروبوت والأمن الرقمي وكل ما يتصل بشؤون الحواسيب، ما زال واقع الحال في عدد من البلدان العربية دون المستوى المطلوب، وهو ما يفسر المراتب المتدنية التي تحتلها معظم الجامعات في المنطقة ضمن التقارير التي تصدرها الهيئات الدولية المختصة بهذا الشأن.

إن أحد الإشكالات الكبرى التي تواجه منظومة التعليم في السياق العربي، يتجلى في مدى القدرة على مواءمة التكوين الذي يخضع له المتعلمون، مع متطلبات ورهانات سوق العمل، إضافة إلى مشكلة أخرى تتعلق بتوظيف التكنولوجيا الحديثة ضمن العملية التعليمية، بما يحقق الجودة، ويدعم الحق في التعليم لعدد من الفئات داخل المجتمع. فقد أظهرت جائحة «كورونا» التي أدت إلى إغلاق المؤسسات التعليمية بكل أنواعها في عدد من الدول، أن عدداً من دول المنطقة لم تكن على قدر من التأهب لضمان استمرار العملية التعليمية عن بعد، لاعتبارات عدة، وعلى رأسها غياب استراتيجية متكاملة مسبقة في هذا الصدد، وعدم توظيف التكنولوجيا الرقمية ضمن هذه العملية، ولعل هذا ما يفرض الاستفادة من هذه المحطة الصعبة على طريق إرساء منظومة تعليمية حديثة ومتطورة كفيلة بتوفير الكفاءات والمهارات اللازمة.

لا شك أن التطورات الرقمية وما أفرزته من تأثيرات داخل المجتمعات، أصبحت تفرض على صانعي القرار تبني سياسات واستراتيجيات تعليمية منفتحة على المستقبل، واعتماد مناهج قادرة على استيعاب هذه المتغيرات، إضافة إلى استشراف المهن والوظائف الجديدة، من خلال تزويد النشء بالمعرفة اللازمة للتعامل البناء مع التطورات التقنية الهائلة، وتمكينه من مهارات تتيح له الولوج إلى سوق العمل بشكل سلس، كما لا تخفى أهمية الانفتاح على التجارب العالمية الرائدة في هذا الخصوص أيضاً.

ويقتضي الأمر كذلك، الحرص على وضع استراتيجيات تضمن تحويل نتائج الأبحاث والدراسات إلى تطبيقات وسياسات عمومية ميدانية، مع تكثيف الجهود بين مختلف الفاعلين في القطاعين العام والخاص من أجل تطوير أداء المنظومة التعليمية على مستوى توطين التكنولوجيا، وتبنّي برامج منفتحة، ومضامين تعليمية عقلانية ومنتجة، تقوم على التفاعل الإيجابي مع الواقع والمحيط، إضافة إلى الانخراط في عقد شراكات تعاون تسمح بالاستفادة من تجارب مؤسسات تعليمية دولية متطورة.