في كثير من الأحيان لا يعلم الرأي العام فلسفة القيادة لقرار ما، لذلك تحرص الدول الكبرى على إعداد برامج للتوعية السياسية، يتم من خلالها شرح القرارات، وأهميتها، ولماذا تم اتخاذها في هذا الوقت بالتحديد، والآثار المترتبة عليها محلياً وإقليمياً وعالمياً، خاصة إذا كانت القرارات ذات علاقة بالأمن الوطني للدولة، وهنا تكمن أهمية التوعية السياسية، في ظل انفتاح عالمي على وسائل الإعلام الخارجية، وتغطيتها للأحداث المحلية في أي دولة، وفي كثير من الأحيان تشوب بعض هذه التغطيات أخطاء متعمدة، أو تلوينها بألوان تضر بمصالح الدولة داخلياً، وبالتالي ستكون التوعية الإعلامية للرأي العام حائط صد قوي، للوقوف ضد الأهداف والأفكار المعادية، وهذا يؤكد ما تقوم به المملكة –حالياً- وبرامج توعيتها للرأي العام، من منطلق عام للشفافية، وهذا المؤشر حققت فيه المملكة تقدماً مذهلاً في السنوات الأخيرة بشهادة عالمية؛ لذا سنقدم نموذجاً للقرارات الحكيمة التي اتخذتها الدولة، وبعد سنوات قليلة، وجد العالم نفسه أمام رؤية سعودية صائبة، تضع مصالح العالم في كفة المصالح السعودية نفسها، لذلك كانت التأييد العالمي لتلك القرارات..

المشهد الأول

بالأمس القريب أصدر خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله- أمرًا ملكيًّا بإنشاء مؤسسة المنتدى الدولي للأمن السيبراني؛ لتصبح مؤسسة تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وغير هادفة إلى الربح، ولها الأهلية الكاملة لتحقيق أهدافها وإدارة شؤونها تحت إشراف مجلس أمناء خاص بها، ويكون مقرها الرئيس في مدينة الرياض؛ لتساهم في تعزيز الأمن السيبراني على المستوى الدولي، وتحقيق التعاون مع دول العالم؛ لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذا المجال، ومواءمة الجهود الدولية المتعلقة بالأمن السيبراني.

في تقديري إن هذه الخطوة تؤكد على ريادة المملكة ودورها في دعم الجهود الدولية، وفتح آفاق لنقل وتبادل وسائل المعرفة والخبرات، واستكشاف فرص التعاون في قطاع الأمن السيبراني؛ لا سيما في ظل ما حقّقته التجربة السعودية في الأمن السيبراني، وهذا ما وضع المملكة في المرتبة الثانية عالميًا في مؤشر الأمن السيبراني، وفق تصنيف الأمم المتحدة، وكذلك في التقرير السنوي للتنافسية العالمية عام 2022م.

المشهد الثاني

كيف كانت نظرة القيادة السعودية لقطاع الأمن السيبراني مستقبلياً؟ لقد كانت نظرة المملكة لهذا القطاع نظرة أكثر شمولية؛ لكي يحقق الأهداف التي رُسمت له مسبقاً، ومنها تحفيز نمو القطاع وتشجيع الابتكار، ودعم ريادة الأعمال والاستثمار ورفع نسبة المحتوى المحلي فيه، وبناء الكوادر الوطنية المتخصصة لسد الاحتياج الوطني في مجالات الأمن السيبراني، بما يسهم في تعزيز منظومة القطاع في السعودية، وتعظيم استغلال الفرص الواعدة التي يزخر بها لتحقيق التنمية المستدامة، والوصول إلى فضاء سيبراني سعودي آمن وموثوق، لتعزيز حماية المصالح الحيوية للمملكة وأمنها الوطني، وحماية البنى التحتية الحساسة والقطاعات ذات الأولوية، والخدمات والأنشطة الحكومية، كما تختص بتحفيز نمو قطاع الأمن السيبراني في السعودية وتشجيع الابتكار والاستثمار فيه، ولقد تأكدت هذه الرؤية في معرض الدفاع العالمي 2024، حيث عمل هذا القطاع الحيوي على خلق بيئة تنافسية تجذب الاستثمار المحلي والعالمي لسوق الأمن السيبراني في المملكة؛ إذ تم إطلاق مجموعة من المبادرات الاستراتيجية ضمن برنامج "سايبرك" لتنمية قطاع الأمن السيبراني، للإسهام في توطين تقنيات الأمن السيبراني والمحتوى التدريبي، وبناء القدرات الوطنية المتخصصة، ودعم برامج البحث والابتكار في مجالات الأمن السيبراني، ويُعنى بتطوير المهارات وتنمية المعرفة لأكثر من 10 آلاف سعودي وسعودية، حيث يتضمن برنامج "سايبرك" في مرحلته الأولى، عدداً من المبادرات النوعية لتحفيز منظومة الصناعة المحلية في مجالات الأمن السيبراني، وتأتي مسرعة الأمن السيبراني بوصفه أحد الممكنات الرئيسة في توطين تقنياته عبر دعم أكثر من 40 شركة ناشئة في المجال، وتحفيز رواد الأعمال ودعم تأسيس أكثر من 20 شركة محلية ناشئة قدّمت حلولاً للتحديات السيبرانية، ضمن برنامج تحدي الأمن السيبراني، إضافة إلى إطلاق برنامج الابتكار في الأمن السيبراني "سايبرك الابتكار" بالشراكة الاستراتيجية مع "نيوم".

المشهد الثالث

من نجاحات "الأكاديمية الوطنية للأمن السيبراني" خلال عام 2023، تدريبها لأكثر من 6000 مواطن يمثلون أكثر من 300 جهة حكومية، كما أسهمت في تنمية القدرات القيادية لـ160 مسؤولاً عن الأمن السيبراني، ضمن برنامج "قادة الأمن السيبراني" الذي يستهدف القياديين العاملين في وظائف الأمن السيبراني، هذا إلى ما تم تحقيقه في برامج التعليم العالي وضمان مواءمة مخرجات التعليم العالي مع الاحتياج الوطني، فقد أصدرت الهيئة، الإطار السعودي للتعليم العالي في الأمن السيبراني "سايبر التعليم"، فضلاً عن إصدار الإطار السعودي لكوادر الأمن السيبراني "سيوف" المختص بتحديد الفئات ومجالات التخصص والأدوار الوظيفية لأعمال كوادر الأمن السيبراني، لأكثر من 40 دوراً وظيفياً، وبما يتوافق مع طبيعة الاحتياج الحالي والمستقبلي لسوق العمل، إضافة لإطلاقها البرنامج الوطني للتوعية بالأمن السيبراني "آمن"، الذي يُعد امتداداً لمبادراتها الاستراتيجية التي تنفذها من أجل رفع مستوى الوعي بالأمن السيبراني لدى شرائح المجتمع.

إن النسخة الرابعة من المنتدى الدولي للأمن السيبراني في مدينة الرياض، تحت شعار: "تعظيم العمل المشترك في الفضاء السيبراني"، قدمت رؤية واضحة للتعاون الدولي، وتعزيز التعاون في مجال الأمن السيبراني، وتحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في قطاع الأمن السيبراني.

المشهد الرابع

إن الرؤية السعودية العالمية للأمن السيبراني، كانت قارئة للتاريخ، مستوعبة أخطاء وقعت فيها أجهزة عالمية، وتسببت في ظهور حالة من عدم الثقة في الشركات العالمية التي تتولى العمل في هذا القطاع، وتقدم خدماتها للعديد من دول العالم، وحسب الإحصاءات العالمية، فقد كانت هناك شركة "كريبتو" Crypto السويسرية، التي تقدم خدماتها لأكثر من مائة دولة؛ لتأمين اتصالاتها ومكاتباتها الرسمية، ولكن في فبراير 2020م، كشفت تحقيقات صحفية في بادئ الأمر، ثم تحقيقات حكومية، اتضح أن هذه الشركة لم تكن أمينة، حيث باعت تعاملات أكثر من مائة دولة لأهم اثنين من أجهزة الاستخبارات العالمية، مما سبب صدمة دولية كبيرة، جعلت دول العالم تعيد النظر في أنظمتها الأمنية السيبرانية من جديد، فقد كانت شركة كريبتو تقوم بتشفير الاتصالات والمراسلات للدولة المُتعاقد معها، خشية اختراقها، إلا أنها خانت تلك الأمانة، وتكشف التحقيقات أن الشركة باعت حصتها السوقية لأجهزة استخباراتية عام 1971م، ولم يتم الكشف عن ذلك سوى في عام 2020م، حيث تم التجسس على تلك الدول طوال هذه الفترة التاريخية الكبيرة.. مما جعل صحيفة واشنطن بوست تصف ما حدث بـ"انقلاب القرن الاستخباراتي".

هنا نعود للمشهد الأول وعبقرية القرار السعودي والقيادة الحكيمة، بإنشاء قطاع أمن سيبراني خاص بالمملكة، قادر على حماية هذا الوطن ومقدراته وإنجازاته، داعم للاقتصاد والمبتكرين ورواد الأعمال والأسواق الناشئة، ومعزز للريادة العلمية، بدمج هذا القطاع في مراحل التعليم المختلفة، ليكون رافداً لسوق العمل، ومؤهل لأبناء المملكة ليقتحموا آفاق المستقبل وفق رؤية تعمل للغد، ورفاهية الشعب السعودي الكريم، فتحية تقدير للقيادة الحكيمة لقراءة هذا المشهد، ومواجهة التحديات، وإنتاج منتج محلي بصبغة عالمية.