ليلة لم ينم فيها العالم.. حبس أنفاسه.. الصراع حول النفوذ في الشرق الأوسط.. الجغرافيا تصارع التاريخ. ليلة الهجوم الإيراني على إسرائيل في تاريخ الصراع بين القوتين. ليلة نسيان وكلاء الحرب وظهور المتنافسين وجهاً لوجه.

مفارقات التاريخ لا تتوقف. طهران ثاني عاصمة إسلامية بعد أنقرة، تعترف في الأمم المتحدة بدولة إسرائيل عام 1949. وإيران التاريخية لديها سجل حافل مع الجماعة اليهودية، فقبل 2500 عام، أعاد قورش قائد الفرس الشهير بقايا اليهود من بابل، بعد أن تم سبيهم على أيدي الملك العراقي نبوخذ نصر، ويدين اليهود للملك قورش بدين سجلته أدبياتهم الدينية. ومنذ أعوام قليلة احتفلت إسرائيل بإنشائها، وأصدرت عملة تاريخية تحمل صورة ديفيد بن غوريون في وجه، والملك قورش في الوجه الآخر، إنها مفارقة التاريخ.

ليلة 13 أبريل اختصرت هذا التاريخ، فقد هاجمت إيران إسرائيل بنحو 330 مسيرة وصاروخاً باليستياً، في رسالة تحمل أكثر من معنى. أولاً: إنها المرة الأولى التي تخرج فيها إيران من وراء جدران الوكلاء، بعد أن انتظرت 12 يوماً في أعقاب قصف إسرائيل قنصليتها في دمشق، وقتل عدد من قادة الحرس الثوري الإيراني.

الرسالة هنا أبعد، فالهجوم الإسرائيلي طال أراضي إيرانية مباشرة، فوجدت طهران نفسها في حرج أمام أتباعها ووكلائها في الشرق الأوسط، فتخلت عما يسمى سياسة الصبر الاستراتيجي ودبلوماسية صانع السجاد، هذا الانتظار لم يكن للاستعداد إنما كان محاولة أخيرة تحصل فيها طهران على إدانة دبلوماسية من القوى الراعية لإسرائيل لكنها باءت بالفشل، فزاد شعورها بالحرج.

الرسالة الثانية حملت بين سطورها دلالات مفارقة، إذ إنها أخرجت بنيامين نتنياهو من عزلته الداخلية، وأعادت الحيوية إلى حكومته التي كادت أن تنفرط.

أما الرسالة الأخطر، فهي استعادة موقع إسرائيل داخل المنظومة الأمريكية والأوروبية، فقد تسابقت هذه القوى على حماية تل أبيب وأسقطت المسيرات والصواريخ في منتصف الطريق، ولم تشعر إسرائيل بأي خطر على أمنها أو وجودها.

الحقيقة أن إيران لديها مصالح قومية بحتة، تقوم على امتداد النفوذ في الجغرافيا العربية من جانب، والوصول إلى آمالها بدخول النادي النووي من جانب آخر.

القضية يا سادة أن ماحدث هو في حقيقته صراع نفوذ وفرض إرادات وحجز مقعد في نظام دولي يتشكل الآن.

كانت الرؤية المصرية والعربية الفاعلة منذ اللحظة الأولى ليوم السابع من أكتوبر 2023، والثالث عشر من إبريل 2024 تنطلق من أن الاستقرار والسلام الاستراتيجي وتنمية الإقليم واحترام سيادة الدول ومقدراتها، هو الجوهر الأمثل للعبور بالمنطقة والإقليم، من شاطئ الفوضى إلى حديقة الاستقرار.

إن الدول المهمة والقوية في منظومة الإقليم العربي، تدرك تمام الإدراك، أن ما يجري من تنافس بين طهران وتل أبيب غير المتجاورتين، يحمل مخاطر وتحديات على العواصم العربية.

لا نخفي سراً أن هذه العواصم القوية والمهمة، سارعت إلى قراءة رسائل ما حدث بعناية شديدة. وتنظر إلى ليلة الهجوم، وما تمخض عنه من حوارات وتداعيات على أنه خطر يجب التعامل معه ككتلة عربية واحدة من تنسيق وتعاون على محاور الأمن القومي العربي، فالأمر جد خطير، فليس سهلاً على المنطقة العربية، أن تصبح معبراً لصواريخ ومسيرات، دون أن تكون طرفاً في الصراع. وليس سهلاً أن تصبح أجواء العرب مسرحاً لحرب لم يخططوا لها وليسوا ضالعين فيها.