بعد تراجع المواجهات الإسرائيلية - الإيرانية المباشرة وضبط توتراتها بسقوف أميركية منعت التصعيد في المنطقة، عادت الأنظار لتُسلط على معركة رفح وجبهة جنوب لبنان. إسرائيل تستمر بحربها على غزة وتستعد بالتزامن مع البحث في الهدنة وصفقة تبادل الأسرى، لاجتياح رفح، وذلك على الرغم من الرفض الأميركي الذي لا يمانع في عملية مدروسة، في وقت تتدفق الأسلحة الأميركية والذخائر إلى إسرائيل، وهي ستزداد مع إقرار الكونغرس المساعدة المخصصة لها مع أوكرانيا. وعلى هذا نجح الأميركيون في منع استدراجهم إلى حرب مع إيران، وفتحوا في الوقت ذاته نافذة لاستمرار المفاوضات غير المباشرة، لكنهم لا يمارسون ضغوطاً كافية على إسرائيل لوقف إطلاق النار في غزة وانسحابه على جنوب لبنان.

يلاحظ أيضاً أنه بعد "الهجوم الإسرائيلي" على أصفهان، والغارات التي تعرض لها الجنوب السوري، لم تشهد سوريا هجمات إسرائيلية بالطائرات ضد مواقع إيرانية، فيما ارتفعت وتيرة المواجهات على جبهة الجنوب اللبناني بين "حزب الله" وإسرائيل، حيث تشهد تطورات عسكرية تنذر بتوسع الحرب مع استمرار التهديدات الإسرائيلية بتنفيذ هجوم بري لإنهاء ما تسميه الوجود المسلح الذي يهدد أمن مستوطناتها على الحدود الشمالية، فيما يواصل "حزب الله" تنفيذ عمليات نوعية أدت إلى تغيير في قواعد الاشتباك السابقة.

في وضع الجبهات والساحات المساندة لغزة، بقيت جبهة الجنوب اللبناني وحدها مشتعلة، وهذا يعني أن معركة إيران مستمرة عبر حلفائها، فيما تسعى إسرائيل إلى توفير تغطية أميركية لحربها على لبنان. لكنّ الأميركيين لا يزالون حتى الآن يمارسون ضغوطاً لمنع توسع المعارك وتدرجها إلى مواجهة إقليمية تنعكس على المنطقة كلها. لكن ذلك لا يعني أن لدى واشنطن تصوراً واضحاً لإنهاء القتال في الجنوب، وذلك على الرغم من استمرار مهمة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي أجرى في إسرائيل بعد زيارة قالت عنها وسائل إعلام عبرية إنها عائلية، محادثات مع وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، فيما يواصل اتصالاته من الخارج مع المسؤولين اللبنانيين لتثبيت التهدئة في الجنوب، لكن التقدم في ذلك مرهون ببدء المفاوضات والتوصل إلى اتفاق لتطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود البرية.

تهدئة جبهة الجنوب باتت مرتبطة بتطورات حرب غزة، إذ يترقب الجميع الوجهة الأميركية وسياستها تجاه لبنان، وما يحمله هوكشتاين في جعبته، وذلك بالتوازي مع المسار الذي سيسلكه التفاوض غير المباشر مع إيران. وعلى الرغم من الورقة الفرنسية التي سيبحث تفاصيلها وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في بيروت، ثمة رهان لبناني على المسار الأميركي ووساطة هوكشتاين للتوصل إلى تسوية. وما دام الوسيط الأميركي لم يحدد موعد زيارته للبنان، فإن ذلك يشير إلى أن التسوية لم تنضج بعد، وهي مرتبطة بوضع غزة، إذ إن استمرار المعركة التي تهدد فيها إسرائيل باجتياح رفح، يعني أن جبهة الجنوب ستبقى مشتعلة. لكن لا شيء نهائياً يدل على أن التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة سينسحب على لبنان، وذلك على الرغم من أن "حزب الله" أعلن استعداده للعودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) ووقف العمليات، إذا تم التوصل إلى هدنة في القطاع، فيما إسرائيل أوصلت رسائل عدة بأنها لن تقبل بذلك وهي ستستمر بحربها على جبهة الجنوب ما لم يتم التوصل إلى اتفاق دبلوماسي يوقف نشاط "حزب الله" العسكري مع ترتيبات أمنية تبعد مقاتليه إلى شمال الليطاني. وفي الأساس كان "حزب الله" قد رفض التفاوض وفصل جبهة لبنان، وحتى البحث في مقترحات هوكشتاين حول تطبيق القرار 1701 وإعادة السكان على الجانبين من الحدود.

وعلى خط المبادرات الدولية، كانت قد رُسمت سيناريوات عدة حول حراك باريس المتجدد في شأن الملف اللبناني والوضع على جبهة الجنوب، تراهن على تبلور وجهة جديدة تستند إلى تفاهم فرنسي - أميركي لتحييد لبنان وتجنيبه حرباً إسرائيلية لا تزال تهديداتها قائمة على وقع المواجهات بين "حزب الله" وقوات الاحتلال الإسرائيلي. وتسعى فرنسا إلى تسويق ورقتها من خلال زيارة سيجورنيه، وهي تحاول انتزاع ضمانة من إسرائيل و"حزب الله" بالتزام عدم خرق القرار 1701 بما يعيد الهدوء إلى جانبي الحدود.

لكن مقوّمات نجاح الحراك الفرنسي في وقف التصعيد لا تبدو متاحة، من دون عودة الزخم إلى الوساطة الأميركية القادرة وحدها على إحداث فرق في الوضع القائم، كما حصل خلال رعايتها المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والاتفاق الذي نتج منها لم يُخرق حتى اليوم رغم العمليات العسكرية على طول الحدود. فنجاح الأميركيين في ضبط المواجهات بين إيران وإسرائيل، وقدرة واشنطن على احتواء أي تصعيد يؤدي إلى تكثيف الضربات المتبادلة، وحصرها في جبهات محددة بينها لبنان كامتداد للحرب الإسرائيلية على غزة، يدل على أن الأميركيين يمكنهم استيعاب الطرفين، أولاً بإعادة التفاوض غير المباشر مع إيران، ووضع حدود أمام إسرائيل تطمئن في الوقت ذاته طهران، ولا تنجر إلى مواجهة معها، إذ إن حكومة بنيامين نتنياهو لا تستطيع توجيه ضربات كبرى ضد إيران بلا تغطية أميركية واسعة لا تستسيغها إدارة بايدن لاعتبارات لها علاقة بالمنطقة.

ويدرك الفرنسيون أن واشنطن وحدها قادرة على إعادة تحريك المسارات، فسياستها في الاحتواء والاستيعاب تنعكس على المنطقة كلها، خصوصاً على لبنان وجبهته الجنوبية المشتعلة، ما دامت قد ضغطت على إسرائيل لمنعها من توسيع الحرب، فيما يعمل مبعوثها آموس هوكشتاين بعد استئناف تحركه على إعادة الزخم لوساطته وتوفير الشروط للتوصل إلى حل وتجنب التصعيد رغم السقوف الإسرائيلية العالية، وأيضاً رفض "حزب الله" للتفاوض قبل وقف إطلاق النار في غزة. وتعني مسارعة واشنطن إلى العمل لوقف التصعيد على جبهة جنوب أنها تتخوف من أن ما يحدث قد يفتح ضمن حسابات معينة الأبواب على مرحلة جديدة من الحرب سيكون ميدانها جنوب لبنان.

حتى الآن لا يمكن القول إن المساعي الدبلوماسية يمكنها ضبط المواجهات وإرساء التهدئة في الجنوب. فـ"حزب الله" مستمر في إشعال الجبهة، وهو انتقل إلى تنفيذ عمليات نوعية وقصف في عمق إسرائيل وصولاً إلى عكا، فيما إسرائيل وسعت من نطاق استهدافاتها بقصف تدميري للقرى وتنفيذ الاغتيالات في العمق اللبناني. وقد بات واضحاً أن قواعد الاشتباك دخلت في معادلة جديدة بعد التطورات العسكرية المتسارعة، ما يعني أن الطرفين يستعدان لحرب قد تشتعل في أي وقت.

وفي حالة الترقب وانتظار ما ستحمله وساطة هوكشتاين والمساعي الفرنسية، يبقى لبنان في حالة استنزاف مديد، وهو يواجه حرباً في الجنوب يبدو أنها ستطول مع المواجهات على الجبهة، إذ لم يعد سهلاً البحث عن تسوية أو حلول بعد أكثر من ستة أشهر ونصف شهر على المعركة، رغم أن الأميركيين لا يريدون التصعيد بين "حزب الله" وإسرائيل. وما يحدث في الجنوب يشكل خطراً محدقاً مع استمرار إسرائيل باستباحة لبنان وضرب عمقه، فيما "حزب الله" مصر على استمرار مساندة غزة ويربط لبنان معه بمعادلة وحدة الساحات وحساباتها الإقليمية.

Twitter: @ihaidar62