تزييف الحقائق ممكن لبعض الوقت ومستحيل كل الوقت، وتسويق الأكاذيب قد يؤتي أكله أحياناً، ولكن لا بد أن يأتي وقت ويتم كشفها، ومن أهم نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة أنها فضحت مقولات انطلت على الرأي العام العالمي على مدى 76 عاماً مضت هي عمر إسرائيل التي تم تسويقها عالمياً على أنها واحة الديمقراطية وقلعة حقوق الإنسان وموطن المساواة ومنارة الإقليم، واليوم انقلب السحر على الساحر، وتكشفت الحقائق، ورأى العالم حقيقة إسرائيل كما لم يرها من قبل.

حاولت الحكومة الإسرائيلية منذ بداية الحرب تصدير صورة الدولة المجبرة على هذه المعركة دفاعاً عن النفس، وحاولت أن تخرس ألسنة الحق، فقتلت المئات من الصحفيين، ولكنها عجزت عن مواصلة التزييف، وعجزت معها وسائل الإعلام الداعمة لحربها، ومثلما زلزلت الصواريخ والطائرات والمدفعية وكل متاح من أحدث الأسلحة أرض غزة تحت أقدام شعبها، زلزلت غزة الداخل الإسرائيلي وكل دولة شجعت الإبادة ودعمت الجيش الإسرائيلي بالسلاح والمال والموقف السياسي، ورغم أن الفيتو الأمريكي نجح في أن يجعل مجلس الأمن مؤسسة بلا موقف تجاه أكثر الأزمات تأثيراً على الأمن والاستقرار العالمي، إلا أنه لم ينجح في أن يعفي أمريكا من مسؤوليتها عما يحدث للفلسطينيين من قصف وحصار وتجويع وتعطيش، دون تمييز بين كبير وصغير ولا امرأة ورجل ولا مسلح ومدني ولا مريض وسليم.

الفيتو الأمريكي لم يمنع حرب غزة من أن تؤثر على الدولة الأمريكية، والمشاهد التي يتابعها العالم اليوم من داخل الجامعات الأمريكية التي تتظاهر غضباً ضد الهجوم الإسرائيلي على غزة تقلق أمريكا والحزبين المحتكرين للسلطة، وتقلق الكونغرس الأمريكي، وتكشف الانقسام وتؤكد أن أمريكا أصبحت بسبب مواقفها السياسية أمة في خطر، فالإدارة في وادٍ والشعب في وادٍ آخر، الإدارة تحرص على مصالح من يموّلون الحملات الانتخابية، والشعب استيقظ وفاق، وعرف أنه يعيش في أكذوبة منذ عقود مضت، أدرك قطاع عريض من الأمريكيين أن الأرض فلسطينية، وأن إسرائيل دولة احتلال ليس له شبيه، يجوّع ويحاصر ويظلم ويصادر حقوق محتله في الحياة.

طلاب الجامعات المتمردون على السياسات الأمريكية هم ضمير أمريكا الحي الذي أدرك أن استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل ينال من مصداقية الدولة، ويطالبها بوقف هذه الحرب ووقف دعمها لإسرائيل، وأن على الجامعات التي يدرسون فيها أن تطبّق ما تعلمه لهم في قاعات المحاضرات، وأن تساند الحق وتواجه الباطل، وأن تقطع علاقاتها بالجامعات الإسرائيلية وكل الشركات الداعمة لإسرائيل، إنهم الصوت الذي يسعى لتصحيح المسار والعودة للطريق السليم، ولكنه الصوت الذي تسعى إدارة بعض الجامعات لخنقه وترهيبه. وبدلاً من أن يسكت صوت الحق بعد استدعاء الشرطة لاعتقاله وترهيبه علا وصدح وانتقل من جامعة لأخرى.

أصبحت الجامعات في مختلف الولايات ومن شرق أمريكا لغربها تهتف بصوت واحد مطالبة بوقف الحرب وبالحرية لغزة الجريحة الفاقدة لخمسة وثلاثين ألفاً من أطفالها ونسائها ورجالها، غزة المصابة المحرومة من الدواء، المدمّرة مستشفياتها ومدارسها ومساجدها وكنائسها. أهم جامعات العالم، هارفارد وكولومبيا وييل وجورج واشنطن وأوهايو ودنفر وتكساس ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وغيرها من أسماء امتدّ نورها إلى بقاع مختلفة في العالم أصبحت الدراسة فيها اليوم شبه متوقفة، فالطلاب ومعهم أساتذة مشغولون بقضية إنسانية أهم، وهي قضية غزة وفلسطين، وهم ليسوا مثل الساسة الذين يناورون بلغة الدبلوماسية وبالكلام الاستهلاكي في المؤتمرات الصحفية، ولكنهم يفعلون عكس ما يقولون. الطلاب والأساتذة الثائرون يعنون ما يقولون، وكي يتحقق الهدف فهم لا يتظاهرون فقط، ولكنهم يعتصمون في خيام نصبوها في حرم جامعاتهم، وهو الأمر الذي ينعكس على الداخل الأمريكي، ويقلق صناع القرار فيها، ابتداء من رؤساء الجامعات، ومروراً بحكام ولايات، وانتهاءً بالبيت الأبيض.

مظاهرات الجامعات أيضاً كشفت أن الشرطة في بعض الولايات لا تختلف عن شرطة دول العالم الثالث في قمع المظاهرات، وخلال الأسبوعين الماضيين تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مشاهد لطلبة يتم القبض عليهم بطرق قمعية وعدد من المدرسين يتم القبض عليهم وسحلهم أمام أعين طلابهم بطرق مهينة لمكانتهم العلمية وللإنسانية، ومشهداً لمسنّ يوثق المظاهرات بكاميرا فينقض عليه رجال الشرطة ويطرحونه أرضاً غير عابئين بعمره ولا بضعفه، في حين أن شرطة ولايات أخرى ترفض مطلب إدارات جامعية للتدخل وفض اعتصامات الطلاب.

أمريكا تستخدم حرية التعبير وحقوق الإنسان سيفاً تسلطه على من يخالفها، ولكن عندما يتعلق الأمر بها تخترع من الأساليب ما لا يخطر على بال، فأمام العجز عن إخماد غضب الطلاب اخترعت سلاح وتهمة «معاداة السامية»؛ لتعاقب بها الطلاب والأساتذة، وهو ما دفع طلاباً وأساتذة مؤيدين لإسرائيل للوقوف في وجه المناهضين للحرب، لتتحول ساحات الجامعات إلى ساحة حرب بين أولئك وهؤلاء، وهم يدركون أن ذلك ينشر الكراهية داخل الجامعات، ويهدم القيم التي روّجتها أمريكا عالمياً وتعجز اليوم عن تطبيقها على أرضها.

الغضب الطلابي الذي اشتعلت شرارته في أمريكا انتقل إلى جامعات الدول الأخرى الداعمة لإسرائيل، ومنها كندا وفرنسا وبريطانيا وأستراليا، إنه فكر جديد يجتاح الغرب، ويؤسس لمستقبل مختلف تجاه الدولة الإسرائيلية والقضية الفلسطينية، ويؤكد أن مستقبل إسرائيل وفلسطين لن يكون مثل الماضي.