تغيّر الغرب وأسقط القناع الذي كان يتنكّر به إزاء العرب طوال خمسين عاماً. تخندق في المربع الأول من تأييده المتكلّس لإسرائيل، لم يأخذ في الاعتبار مسالمة العرب بل استخدمها لمكافأة أو لوعدها بمكافأة بعد كل الفظاعات التي ارتكبتها في غزّة. ابتلع كل مخالفاتها للقوانين والقيم والمبادئ التي ابتدعها الغرب نفسه لتحصين ما قدّمه على أنه "أخلاقية" يتميّز بها عن سائر الأنظمة العالمية. لكن إسرائيل التي تبنّاها الغرب وحماها باتت الآن وجهه الآخر بعدما أخذت على عاتقها إعادة إبراز صورة "الأميركي البشع" على نحو أسوأ مما عُرفت به في خمسينات - ستينات القرن الماضي.

لا شك في أن مشاهد قمع طلاب الجامعات الأميركية وحتى الفرنسية، والتشريعات الانفعالية للكونغرس الأميركي، والعبث المشتبه به بـ"معايير التطرّف" البريطانية، ومنع فرنسا وألمانيا دخول الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستة، لم تخدم هدف مكافحة "معاداة السامية"، بل الأكيد أنها أساءت إلى "قداسته" فعسكرته وأخرجته إلى الأضواء لحماية إسرائيل التي لم يعد هناك شيء معنوي يمكن أن يحميها.

حتى إشعار آخر، يصعب تصديق أن المحكمة الجنائية الدولية يمكن أن تصدر مذكرات توقيف بحق بنيامين نتنياهو ويواف غالانت (صاحب عبارة "الحيوانات البشرية") وهرتسي هاليفي. لكن مجرد وجود احتمال كهذا يعدّ تغييراً مهماً، أما تطبيقه فيرقى إلى انقلاب جذري في نظام العدالة الدولي. ثم إن إقدام أعضاء في الكونغرس على تسريبه أضفى عليه جدّية، حتى أنه أقلق قادة إسرائيل، ليس من إمكان تنفيذه، بل من مجرّد "التفكير" فيه، خصوصاً أن مدّعي عام المحكمة بريطاني قبل أن يكون قاضياً ذا خبرة حقوقية دولية، كما أن سلوكه حيال الملف الفلسطيني كان باهتاً وسلبياً إلى أقصى حدّ. وفي أي حال، كشف الكونغرسيون أنهم تناقشوا مع أعضاء في المحكمة، أي أنهم تدخّلوا في عملها وحاولوا التأثير في مجراه، قبل أن ينتقلوا إلى التوعّد بـ"انتقام أميركي" إن هي خطت في اتجاه اتهام إسرائيل، حتى ولو أسوة باتهام قادة حركة "حماس".

تغيّر أيضاً الفلسطينيون، إلى حدّ أن حدثاً مثل كارثة غزّة لا يدفعهم إلى توحيد صفوفهم، ما يعزّز الاعتقاد السائد منذ زمن بأن تقاربهم ممنوع أميركياً وإسرائيلياً وحتى عربياً. لم يعد أحد يصدّق أن أي لقاء أو حوار بين "فتح" و"حماس" يمكن أن يفضي إلى "مفاجأة"، سواء سُمّيت "مصالحة" أم "توافقاً" أو ما إلى ذلك. تنقّلت لقاءاتهم بين دزينة من العواصم كان آخرها في موسكو وبكين من دون نتائج ملموسة، فما هو مطلوب للمصالحة ربما يصعب تحقيقه، وبات أكثر صعوبة بعد "طوفان الأقصى" والحرب التي أعقبته، حتى لو توفّرت النيّة والرغبة. ذاك أن "حماس" والفصائل المنضوية تحت جناحها واضحة في سعيها إلى السيطرة على السلطة الفلسطينية بأي وسيلة ممكنة، بما في ذلك الانقلاب عليها. لكن هذه السلطة مستندة إلى تركيبة منظمة التحرير الفلسطينية، وقد اعتُرف بها دولياً بناءً على قبول أولي مشروط بـ"اتفاق أوسلو" من الولايات المتحدة وإسرائيل ثم من الدول الغربية.

وعلى رغم أن إسرائيل مزّقت عملياً "اتفاق أوسلو" لنزع أي شرعية عن "السلطة"، فإن الاعتراف الدولي استمرّ، وهو ما يشكّل الآن قاعدة للبحث في إقامة دولة فلسطينية تنفيذاً لـ"حلّ الدولتين"، الذي كانت فصائل غزّة سبّاقة إلى رفضه بالتزامن مع رفضها "أوسلو" ومواصلتها عدم الاعتراف بـ"السلطة"، وكلّها خيارات التقت فيها الفصائل "موضوعياً" مع إسرائيل.

وأخيراً أعلنت "حماس" أنها مستعدة لحلّ جناحها العسكري والتحوّل إلى حزب سياسي إذا أقيمت دولة فلسطينية مستقلّة في حدود 1967. وقد راوح تقويم هذا الإعلان بين ثلاثة احتمالات: الأول أنه يعكس نتائج الحرب على غزّة، وإقراراً بضرورة تقديم "تنازلات". والثاني أنه محاولة من الحركة لإحباط مساعي عزلها وتأمين قبول بقائها سياسياً في معادلة فلسطينية جديدة بعد انتهاء الحرب. والثالث أنه قد يكون مجرّد مناورة لتمرير المرحلة الراهنة.

وكرّست هذه الحرب تغيّراً لا رجعة فيه للعرب في التعامل مع القضية التي لا يزالون يعتبرونها "مركزية"، إذ انتهجوا الدبلوماسية كأنهم فريق واحد، لكن الصيغ اللغوية القوية لم تحجب تفرّقهم وانقسامهم، لذلك لاقتهم الولايات المتحدة بالدبلوماسية أيضاً وجعلت لوقف الحرب عنواناً واحداً هو "التطبيع" حتى لو بدا وعداً مؤكّداً لإسرائيل بمكافأتها على وحشيتها لقاء وعد غير مؤكّد بـ"دولة فلسطينية" دونها الكثير من الشروط والعقبات الإسرائيلية. وفي الأثناء تفسح واشنطن لإيران مجالاً مفتوحاً كي تلعب دور الطرف الآخر (غير المعترف به رسمياً) في حرب غزّة، وتوظّف القضية الفلسطينية في تثبيت نفوذها على أربعة بلدان عربية، فيما هي تعبث بأمن الملاحة في البحر الأحمر وتسعى إلى الهيمنة على الأمن الإقليمي من خلال ميليشياتها.

ربما لم تجنِ إيران بعد كل المكاسب التي تطلّعت إليها من الحرب على غزّة لكنها لم تخسر أياً من الأوراق التي لا تزال في يدها، من سوريا والعراق إلى لبنان، لكن خصوصاً في اليمن حيث جعلت من الحوثيين أشبه بـ"لاعب إقليمي - دولي" وبرهنت بذلك أن أي حلّ للأزمة اليمنية لن يكون إلا إذا اعترف بهيمنتها.

وفيما استقطبت الحرب جلّ الانشغال الدولي، فإنها أتاحت من جهة تسريع التقارب بين مصر وتركيا، ومن جهة أخرى تعزيز التوافق بين تركيا وإيران، وعلى رغم تباعد أهدافهما في سوريا، فإن طهران مرّرت آنياً الاتفاقات الأمنية والتجارية بين أنقرة وبغداد ما دامت قد عُقدت تحت سقف هيمنتها على العراق. وفي الوقت نفسه أتاحت الحرب لإثيوبيا مدّ نفوذها إلى الصومال، ولم تثر سوى احتجاجات عربية لفظية.

لكن المأساة الكبرى التي حجبتها حرب غزة كانت ولا تزال الحرب الدائرة في السودان، فبعد مضي عام عليها تبدو هذه الحرب كأنها في بدايتها. وعلى رغم استشراء النزوح وتفشي خطر المجاعة على نطاق واسع، فإن طرفي المواجهة الأهلية لا يستجيبان لأي مساعٍ لوقف القتال والبحث في حلول سياسية، ولا يخططان إلا للتوسع في السيطرة، الذي بات يعني التوجّه إلى تفتيت البلاد وتقسيمها. كثيرة هي الأطراف الخارجية المتدخّلة في السودان، عربية وغير عربية، فروسيا عادت إلى الاهتمام مبدّلة دور "فاغنر" وساعية إلى ربط السودان باستراتيجية توسيع نفوذه في أفريقيا، كذلك إيران نشّطت قنوات اتصالها مع إسلاميي الجيش والنظام السابق. لا أحد يساهم فعلياً في حلّ الأزمة بل يفاقم تعقيداتها.