في حفل مهيب طغت عليه مظاهر الأبّهة والفخامة والانضباط في قصر الكرملين، أدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليمين الدستورية لولاية خامسة من ست سنوات، ستكون حاسمة في تاريخ روسيا الحديث وفي التوازنات الدولية التي تتشكل تدريجياً بفعل الأزمات والتشابكات القائمة بين القوى الفاعلة على الصعيد الدولي.

بداية الولاية الجديدة، مختلفة عن العهود السابقة التي تولاها بوتين للمرة الأولى عشية الألفية الثالثة بساعات إثر استقالة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين المفاجئة يوم 31 ديسمبر/كانون الأول 1999. ومنذ ذلك التاريخ سيطر هذا الرجل القادم من جهاز الاستخبارات السوفييتية الرهيب «كي جي بي» على القرار الروسي، وأصبحت له الكلمة الفصل في كل الملفات الاستراتيجية، حتى عندما كان رئيساً للوزراء بين عامي 2008 و2012 تحت رئاسة ديمتري ميدفيديف. وفعلياً فإن بوتين يستلهم من رموز التاريخ الروسي كل ما يرسخ العظمة والسطوة، ويشبه نفسه بقيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر، ويعتقد راسخاً أنه قادر على استعادة روح ذلك المجد، وفرض روسيا قوة عالمية يحسب لها الخصوم ألف حساب.

يبدأ بوتين ولايته الخامسة، وهو أقوى من أي وقت مضى، متعهداً بالنصر في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وفي مواجهة التحالف الغربي الساعي إلى تركيع روسيا وقمعها عن تحقيق أهدافها الحيوية في عالم متعدد الأقطاب. وفي خطاب القسم، كرر بوتين مجدداً أن بلاده ستخرج «أقوى من مرحلة صعبة»، وأن قيادة روسيا «شرف عظيم، مسؤولية وواجب مقدس»، وهذه الجملة وحدها كافية لتختزل رؤية واسعة من الطموحات والأهدف لفرض سلطة جيوسياسية لموسكو في عالم، تبين بالتجربة، أنه لا ينصاع للتغيير إلا بالتصميم والقوة والإرادة والكفاءة في الدفاع عن المصالح الوطنية.

الدول الغربية، التي قاطع ممثلوها حفل أداء اليمين الرئاسي، رداً على «انتخابات مزورة»، كما يقولون، تابعت كل أجهزتها وقنواتها الأمنية والدبلوماسية خطاب بوتين، ساعية إلى تحليل خلفياته وأبعاده، لكن المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف خفف عنهم عبء التقصي بتأكيده أن الأفكار الواردة في الخطاب من إعداد الرئيس وتأليفه، بمعنى أنها تترجم طموحات شخصية لبوتين باعتباره زعيماً لهذه المرحلة، قبل أن تعبّر عن مؤسسة الرئاسة ومكونات الدولة الروسية. وفحواها الواضح أن العلاقة مع القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة لن تكون هادئة ومفتوحة على مآلات خطِرة. وبينما لم يغلق باب الحوار مطلقاً مع الغربيين حول الاستقرار الاستراتيجي، قال بوتين إن «الخيار متروك لهم بشأن ما إذا كانوا يعتزمون مواصلة محاولات ردع تنمية روسيا والسياسات العدوانية والضغوط المستمرة منذ سنوات أو البحث عن سبيل نحو التعاون والسلام». ولا شك أن مثل هذه النبرة المتحدية تجد صداها في عواصم عالمية عدة تتشارك مع موسكو التبرم من الهيمنة الغربية التي أفلست سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً لفشلها الذريع في معالجة الأزمات العالمية، واعتمادها نظرة أحادية لا ترى في الكون غير أهدافها ومصالحها الضيقة.

بوتين بدأ ولايته الخامسة، ليكون أطول أسياد الكرملين خدمة منذ الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، وبموجب تعديل الدستور الأخير، فهو مؤهل لولاية سادسة حتى 2036، وهذه فترة كافية لإعادة إطلاق روسيا دولة عظمى كما فعل بطرس الأكبر قبل ثلاثة قرون.