يدأب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على التحذير من مصير قاتم يواجه أوروبا. لا تتعلق المسألة بالحرب الروسية-الأوكرانية فحسب، بل بما يراه من تخلف أوروبي عن اللحاق بركب التقدم الاقتصادي الذي حققته الولايات المتحدة والصين.

وبلغة مشابهة لخطاب مطول ألقاه في جامعة السوربون الشهر الماضي ومقابلة مع مجلة "الإيكونوميست" البريطانية لاحقاً، حذر ماكرون من أن "الأمور في أوروبا من الممكن أن تنهار بسرعة"، وشدد على الحاجة إلى كم هائل من العمل من أجل جعل أوروبا آمنة.

لكن ماكرون يعاني مشكلتين أساسيتين هما تدهور شعبيته في الداخل وتوتر علاقاته بألمانيا. وعلى غرار رؤى أخرى متشائمة، فهو يواجه مخاطر تجاهل رسالته.

القوة الدافعة لتحذيرات ماكرون هي الغزو الروسي لأوكرانيا. وهو يعتبر أن روسيا اليوم لا تعرف حدوداً، وأنها إذا ما نجحت في أوكرانيا، فالدور سيأتي على ليتوانيا وبولندا ورومانيا أو أي دولة جارة أخرى. وهذا كلام معناه أن انتصار روسيا سيدمر الأمن الأوروبي.

ولا يزال ماكرون يتمسك بما طرحه في شباط (فبراير)، من أن أوروبا يتعين عليها ألا تستبعد فكرة إرسال قوات إلى أوكرانيا لمنع روسيا من الانتصار، على رغم أن هذا الطرح أفزع بعض حلفائه، فيما يرى هو أن التردد سيشجع روسيا على المضي في سياستها.

مسألة أخرى يتمسك بها ماكرون، وهي أنه بصرف النظر عن الرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) 2025، فإن أوروبا يجب أن تعيد النظر في عقود من الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة. ويدعو إلى ما يسميه نقاشاً "وجودياً" في غضون أشهر. ويفضل إدخال بريطانيا والنروج في هذا النقاش من أجل إيجاد إطار للدفاع الأوروبي بما يخفف العبء عن أميركا.

والنقطة الجوهرية الأخرى التي أثارها ماكرون في المقابلة مع "الإيكونوميست"، كانت رغبته في توسيع المظلة النووية الفرنسية، بما يشكل خروجاً على مبدأ ديغولي وإحداث نقلة نوعية في علاقات فرنسا ببقية أوروبا.

وما أثاره ماكرون أيضاً، هو ما وصفه بالهوة الصناعية التي باتت تفصل أوروبا عن الولايات المتحدة والصين. وهذا في رأيه عائد إلى اعتماد أوسع على الطاقة والتكنولوجيا، خصوصاً الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي. وأبدى إحباطه حيال عدم استجابة الصين للالتزام بقواعد التجارة الدولية، بينما الولايات المتحدة تدعم صناعات حاسمة لديها. والحل في رأيه يكمن في تقديم أوروبا المزيد من المساعدة للقطاع الصناعي والحماية.

لا شك في أن الهواجس التي يطرحها ماكرون بالنسبة إلى مستقبل أوروبا يتعلق جزء منها بالانتخابات الأوروبية الشهر المقبل، إذ يتقدم عليه اليمين المتطرف، بينما الجزء الآخر يمليه تفكير الرئيس الفرنسي بإرثه السياسي بعد عام 2027. ويريد منذ الآن أن يبحث عن شخصية مؤثرة لديها القدرة على إلحاق الهزيمة بزعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف مارين لوبن في الانتخابات الرئاسية.

وإلى حد بعيد، لا يجافي هذا الافتراض واقع إصرار ماكرون في الأشهر الأخيرة على قيادة حملة تدعو إلى مواجهة روسيا ومنعها من الانتصار في أوكرانيا، وهو الذي عرف عنه سابقاً سلوك خط معتدل حيال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأبقى خيوط الاتصال قائمة معه لمدة أشهر بعد اندلاع الحرب في 24 شباط 2022.

وأياً كانت الأسباب التي تجعل ماكرون يرفع اليوم لواء التصدي لروسيا أوروبياً والدعوة إلى استقلال القارة عن أميركا دفاعياً، فإن الرجل يسعى إلى تقديم نفسه صاحب رؤية في عالم يشهد تحولات وتقلبات سريعة، ومعها تحتاج الدول إلى امتلاك نفاذ بصيرة حول الأحداث الجيوسياسية الكبرى مثل الحرب الروسية-الأوكرانية، باعتبارها مفصلاً بين تاريخين في أوروبا والعالم.