تتسع رقعة الحراك الطلابي الرافض للحرب على غزة في الجامعات الأمريكية والغربية بشكل عام، حيث تصاعد هذا الحراك ليشمل جامعات فرنسية وبريطانية وأسترالية وكندية وغيرها، في مشهد يعيد إلى الأذهان تلك الاحتجاجات التي أوقفت عجلة الحرب الأمريكية على فيتنام قبل أكثر من خمسين عاماً.

وذلك عندما أدت الاحتجاجات المناهضة للحرب والتجنيد الإجباري إلى تحول كبير في الرأي العام الأمريكي أفقد الرئيس الأمريكي آنذاك ليندون جونسون الكثير من مؤيديه، وقاد ذلك إلى هزيمة الولايات المتحدة في هذه الحرب التي خسرت فيها نحو ستين ألف جندي وأكثر من ثلاثمئة وأربعة آلاف جريح، رغم عدد الجنود الكبير الذي تم الزج بهم في هذه الحرب، والذي فاق مليونين ونصف المليون جندي منذ بداية الحرب في 1964 حتى عام 1973.

والحقيقة التي تبدو واضحة للعيان في هذه الأيام هي أن المظاهرات الطلابية التي اجتاحت العديد من الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي راحت تنتقل من بلد أوروبي إلى آخر، إنما تشكل نقطة تحول كبير، في الفهم الشعبي الغربي للصراع بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، بعيداً عن عملية غسل الدماغ التي كان يمارسها اللوبي الإسرائيلي في الغرب، والتي غيبت حقائق هذا الصراع عن عيون أجيال كثيرة، وشكلت سردية مغلوطة لتاريخ هذا الصراع وتفاصيله الكثيرة والأساسية، ما يعني أن ما يجري الآن من حراك طلابي في الغرب سيمثل عاجلاً أو آجلاً نقطة تحول في مواقف هذه المجتمعات الغربية.

ولمعرفة أهمية هذا الحراك الطلابي سواء في الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الأخرى لا بد لنا من فهم الدور الذي تلعبه هذه الجامعات لا سيما الأمريكية في المجتمع والسياسة على حد سواء، فعلى سبيل المثال تعتبر جامعة كولومبيا أقدم مؤسسة للتعليم العالي في نيويورك، والخامسة من نوعها في الولايات المتحدة. وفيها تخرّج كثير من كبار الساسة وعلماء الاقتصاد الأمريكيين والأجانب.

ناهيك عن كونها تضم عشرات الآلاف من الطلبة إضافة إلى طاقم التدريس والموظفين.

وفي هذه الجامعة تخرّج الكثير من الساسة البارزين ومنهم الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، والكثير من رؤساء الدول والقادة في العالم، ما يعني أنها تمثل ثقلاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً كبيراً.

ورغم حملات القمع التي اتخذتها الشرطة الأمريكية ضد الطلبة المحتجين في جامعة كولومبيا واعتقال المئات منهم فسرعان ما انتشرت الاحتجاجات لتشمل العديد من الجامعات الأخرى سواء في أمريكا أو الدول الأوروبية الأخرى.

وفي تعقيبها على حملات القمع التي يواجهها الطلاب دانت منظمة العفو الدولية تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابية، وقالت المنظمة إن إدارات الجامعات الأمريكية واجهت الاحتجاجات الداعمة لحقوق الفلسطينيين بعرقلتها وقمعها، بدلاً من السماح لطلابها بممارسة حقهم في الاحتجاج وحمايته، مضيفة أن الحق في الاحتجاج مهم جداً للتحدث بحرية عما يحدث الآن في غزة، خاصة مع استمرار الإدارة الأمريكية بإمداد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة.

واللافت أن هذه المظاهرات الطلابية كانت بمبادرة مجموعة «نزع الفصل العنصري بجامعة كولومبيا» التي تضم أكثر من 100 مجموعة طلابية، تسعى إلى إنهاء استثمارات الجامعة في شركات الأسلحة وغيرها من الشركات التي تدعم احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وتضم طلاباً يهوديين ومسلمين وفلسطينيين، كما توجد هناك مجموعات طلابية أخرى مثل «طلاب من أجل العدالة في فلسطين» و«الصوت اليهودي من أجل السلام».

وكما هو الحال في الولايات المتحدة شهدت، فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، وأستراليا، وغيرها من الدول الأوروبية احتجاجات مماثلة.

ونلاحظ مما تقدم أن موجة الاحتجاجات الطلابية وغير الطلابية التي تجتاح الغرب والعالم بشكل عام ضد الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني تشير إلى تبدل في النظرة إلى «إسرائيل» والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لا سيما إذا علمنا أن انتقاد «إسرائيل» قبل بدء الحرب الإسرائيلية على غزة كان من الخطوط الحمراء التي قد تكلف من يتجاوزها خسارة كبيرة على الصعيد المهني أو السياسي أو الاجتماعي، حيث كانت شماعة ما يسمى «العداء للسامية» جاهزة للإيقاع بكل من يتجرأ على انتقاد السياسة الإسرائيلية، أو سرد أي فكرة مخالفة للأفكار التي زرعها اللوبي الإسرائيلي في الغرب في توصيفه للصراع في منطقتنا، قالباً الكثير من الحقائق والمسلمات التاريخية، حتى أن السيناتور اليساري الأمريكي بيرني ساندرز لم يتردد في شن هجوم لاذع على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مشدداً على ضرورة عدم الخلط بين إدانة القتل في غزة ومعاداة السامية، وذلك بعدما وصف نتنياهو المظاهرات التضامنية مع غزة في الجامعات الأمريكية بأنها «معاداة للسامية» على حد تعبيره.

وأخيراً، يمكن القول إن ما تشهده العشرات من الجامعات الأمريكية والأوروبية ينسف في الواقع تلك السردية المضللة التي انتهجها الإعلام الغربي تحت تأثير اللوبي الإسرائيلي على مدى أكثر من سبعين عاماً، ويمثل ما يشبه الصحوة من التخدير الذي مورس بحق الكثيرين في الغرب بشكل خاص والعالم عامة.