من وقت لاخر نسمع من قادة في الاحزاب الاسلامية الحاكمة في العراق تخويفاً وتحذيرات من العلمانية، باعتبارها – كما يزعمون- عدوة الدين والمجتمع، وتجب محاربتها بلا هوادة. وسمعنا اخيراً احدهم ينذر بالويلات ما يدّعيه من انتشار موجة الالحاد في العراق. هؤلاء الاسلاميون، المستحكمون برقاب الشعب العراقي وبالثروات الوطنية، ليسوا وحدهم في تشويه وفي تبشيع العلمانية وكأنها وحش ضد الاديان. فالإسلاميون في بلدان اخرى، وفي مقدمتهم الاخوان المسلمون، يفعلون الشيء ذاته في نشاطاتهم الرامية الى التزعم والهيمنة وإلغاء الاخر. ان العلمانية في حقيقتها توأم الديمقراطية، او الوجه الاخر للمبدأ نفسه، انها في الحقيقة مع حرية التدين، دون الانحياز لدين بعينه، وهي ايضا مع حرية غير المؤمنين. والدولة العلمانية حقا لا تعلن انها دولة ديانة بعينها. ان الدولة الديمقراطية حقا هي دولة علمانية، والدولة العلمانية حقاً هي دولة ديمقراطية تضمن الحريات العامة والشخصية وحقوق الانسان وترفض التسلط والقمع، وكل اشكال التطرف والتمييز. ان الدولة العلمانية الديمقراطية تؤمن بحرية المرأة وبحقوق الاقليات وبحرية المعتقد وحريات الفكر والنشر والتعبير. وبالطبع وقبل كل شيء، فان العلمانية تعني فصل الدين عن الدولة ومؤسساتها وعن الانتخابات والحريات الحزبية. في بداية القرن الماضي كان العلمانيون يرفعون شعار ( القس في الكنيسة والمعلم في المدرسة ورئيس البلدية في بلديته). وكان ذلك رداً على التحكم القديم للكنيسة بالمجتمع والتعليم والسياسة. وفي الدولة العلمانية – وهي ديمقراطية كما قلنا- لا مكان في الحياة العامة لأحزاب سياسية تتستر بالدين، وتتخذه اداة وجسراً للوصول الى غايات سياسية. ان رجل الدين مواطن، ويجب احترامه ولكن عليه ان لا يخلط بين واجباته الدينية وبين شؤون السياسة والدولة. وبإمكان رجل الدين، كمواطن ان يدلي برأيه في السياسة، ولكنه حينذاك، ومهما كان مقامه، معّرض للنقد والسجال كرجل سياسة، وسواء كان هو البابا او الازهر او المرجعية الشيعية. وأتذكر المساجلات الحامية بعد سقوط النظام البعثي مباشرة حول الانتخابات النيابية، حيث سارعت الاحزاب الشيعية، مدعومة بالمرجعية الشيعية الى المطالبة بإجراء الانتخابات فوراً. وهذا ما عارضه فريق كبير من اطراف المجتمع المدني والمثقفين وفريق من الساسة. عارضوا ذلك لان العراق كان في بداية تحرره من الطغيان وكان الوضع الامني متدهوراً، ولا سيما مع تسلل القاعدة الى العراق من ايران وعبر سوريا. وكنت مع الصديق الدكتور عبد الخالق حسين من هذه الشرائح العراقية التي عارضت

الانتخابات الفورية. وقد تعرض السيد السيستاني نفسه للنقد لشدة حماسه للانتخابات الفورية. وهذا دفع بمثقف شيعي الى كتابة مقال عنوانه ( بين علمانية عبد الخالق حسين وماركسية عزيز الحاج) الكاتب و كعادة الاسلاميين شوه معنى العلمانية، بوصفها حسب زعمه ضد الدين، وتورط فقال موقف عزيز الحاج هو لانه ليس شيعياً، وهذا غير صحيح. وقد رد الصديق الدكتور في مقال جيد عنوانه (بين رجل الدين ورجل السياسة) وذكر انه يحترم مقام السيد السيستاني كرجل دين مرموق، ولكن عندما دخل ميدان السياسة في قضية هي موضع خلاف وسجال، فانه معّرض للنقد والنقاش.

ونقطة اخرى هي مدى علمانية انظمة تفصل بين الدين والدولة ولكنها تقمع الحريات وتنهج سياسات التسلط والقمع، مثل هذه الانظمة ومنها النظام السوري والنظام البعثي السابق، لايمكن اعتبارها انظمة علمانية حقاً ما دامت انظمة تسلطية و دكتاتورية، ومن ناحية اخرى، فان علمانية كمال اتاتورك نفسها لم تكن نموذجية بسبب رفضها لحقوق القوميات الاخرى، واستعمال القهر في تنفيذ بعض الاجراءات وفرضها. نقول هذا رغم ان حركة اتاتورك بفصل الدين عن الدولة وإلغاء الخلافة والسلطنة كانت طفرة كبرى الى امام في العالم الإسلامي اخذين بالنظر تلك الظروف من التخلف المستحكم وتسلط رجال الدين. ان على اعداء العلمانية من حكام العراق ان يكفّوا عن الصراخ المستمر حول خطر العلمانية وتمجيد ديمقراطيتهم المزعومة. وان نشاطات المجتمع المدني ليست الحاد ايها السيد الحكيم، بل انها نشاطات تهدف الى محاربة الفساد والمحاصصة والى بناء عراق ديمقراطي علماني، ناهيكم عن استخدام كل الجهود الوطنية لدحر داعش.