كائنا من يكون الذي يمتلك القرار في الدوحة فإن الأدلة والبراهين والتسجيلات والوثائق والتصريحات والتحويلات الملايينية والإفادات الدولية تثبت أنه غير اعتيادي وغيرطبيعي. فالذي تسعده آلام الناس، وتبهجه مشاهد الدمار والخراب وسفك الدماء في بلاد آمنة كل جريرتها أنها لا توافق على قناعاته وسلوكه وأقواله، ولا تحترم أبناءها الذين يستخدمهم لقتل أشقاء لهم مدنيين وعسكريين، لهو عجيب وغريب. إنه ظاهرة تستحق من خبراء علم النفس والاجتماع والصحة العقلية أم يضعوا كل خبراتهم في تحليلها، وفهم أسرار تكوينها.

والذي استمع إلى المكالمة بين أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثان والرئيس الليبي الراحل معمر القذافي يلمس مدى غفلة هذا الشيخ وسذاجته وعمق غرقه في أوهام لا وجود لها، ولا مبرر لأن يشغل نفسه بها حاكم دولة لا راعي غنم، ويقيس أيضا حجم ما في نفسه من حقد وحسد وكراهية وسوداوية بلا حدود.
يستعرض أمير قطر (الأب) للقذافي، مباهيا، محاولاته في دعم الجماعات المعارضة للسعودية وجهوده للإضرار بها، ودور قناة الجزيرة في ذلك.

ويعرج أمير قطر السابق على السودان والإمارات ويحاول ان يستميل القذافي من أجل تكوين محور يهدف إلى دعم الحركات الداخلية لزعزعة استقرارها وتقسيمها. ويصف دولا وشعوبا بأنها بلا كرامة.

ثم جاء الولد، على سر أبيه، مهووسا بشحن الذخيرة والمدافع وأسلحة القنص وطائرات التجسس والتصوير والمراقبة وأدوات التفخيخ إلى العراق وسوريا ومصر ووليبيا واليمن ولبنان والسودان وتونس والبحرين، حالما، كما يحلم حلفاؤه الإيرانيون، بجعلها مستعمراتٍ يضمها إلى امبراطورية قطر العظمى، بالحديد والنار، وبسواعد (مجاهديه) الإخوان المسلمين ومن يدور في أفلاكهم، فقط لا غير.

يدور من دولة إلى دولة، من الخليج إلى المحيط، للبحث عن فرض إشعال حرائق لا إطفائها، ولهدم مدن آمنة لا إعمارها، ونشر الموت واليتم أينما حل ورحل. 
والمصيبة أن الشيخ الأب والشيخ الإبن يتربعان على تلال من ذهب وفضة لم يفكرا لحظة واحدة في تشغيلها في نفع دول وشعوب شقيقة أو صديقة معدمة تبحث عن أية معونة تخفف جوع مواطنيها، وجهلهم، وأمراضهم، وتغني آلافا منهم عن البحث في القمامة عن طعام، بل قرر، واختار، مع سبق الإصرار والترصد، أن يجعلها في خدمة كل هارب من وجه العدالة، ووكل خارج على القانون ما داموا يمتهن عقيدة الحرق وتفجير المفخخات وقطع الرؤوس.

حتى طفح كيل الدول المحترقة بنيران (الشيخين)، فقطعت العرق وسيحت دمه، وأسقطت الفأس في الرأس ليفيق الشعب القطري من نومه ذات صباح ليجد (قطرَه) التي كانت دولة عظمى تصول وتجول، وترغي وتزبد، وتتوعد وتهدد، أصغرَ من فراشة حائرة محاصرة، في الجو والبر والبحر، وسيفُ القصاص مسلطٌ على رقبة كل فرد من أبنائها بجرمٍ لم يكن له فيه ناقة ولا جمل.

والمأزق خانق جدا للدول الأربع التي غلَّقت الأبواب، جميعَها، على الحاكم القطري، حتى لم تبق له فسحة للهرب من المصيدة، قبل أن يكون مأزقا قطريا وحده. فهي لم تعرض عليه، ولم تترك أمامه سوى واحدٍ من انتحارين:
أما الانتحار الأول فهو أن يرفع الراية البيضاء، ويخرج رافعا يديه، مستسلما موافقا، مرغما، على تنفيذ المطالب، بالملموس، وليس بالمسموع، فيطرد الذين طلبت الدول الأربع طردهم، ويسلمها الذين يطلبهم قضاؤها، ويتوقف عن شحن المال والسلاح والذخيرة والخبراء والمجاهدين لـ (المجاهدين) المصريين واليمنيين والسوريين والعراقيين والبحارنة والليبيين والتوانسة والبحارنة، المتلبسين لبوس (الجهاد) الإسلامي، ويكف عن تشغيل إعلامه في إشعال الفتن بين الحكومات وشعوبها، وبين فئات الشعب الواحد، وتعطيل مشاريع المصالحة، في دول عديدة، وعرقلة أية جهود تبذل لإنهاء الاقتتال، وإحلال التفاهم والسلام بين المتقاتلين، وأن يفتح سجلاته وملفاته لمن يريد التأكد من جديته في تنفيذ المطالب. وهذا هو انتحاره الأول، دون جدال. لأنه، بذلك، سيعود بلا أظافر ولا أسنان، من ناحية، ومن ناحية ثانية سيواجه غدر الإرهابيين الذين أدخلهم في عُبه، وأطلعهم على أسراره وتفاصيل سياساته، وشاركهم التآمر والتخطيط لكثير من وقائع القتل والاغتيال، وقد يجد نفسه، في النهاية، وراء قضبان المحاكم الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، ويكون شهود الإثبات عليه إخوانٌ مسلمون وقاعديون وربما داعشيون، ونُصريون، وحوثيون، وعراقيون وليبيون، وغيرهم كثيرون.

أما الانتحار الثاني فهو أن تأخذه العزة بإثمه وبسجله الطويل من الظلم، فيكابر، ويحاول التذاكي والمراوغة والتسويف، ويصر على استمراره في السياسة المشاكسة الضارة بجيرانها والمنطقة. ولكنه لن يجد الدول الأربع إلا أكثر صمودا وثباتا على ما التزمت به أمام شعوبها والعالم. 

وقد جاءت الأخبارُ الأخيرة لتؤكد قناعة الدول الأربع بأن "الحكومة القطرية عملت على إفشال كل المساعي والجهود الديبلوماسية لحل الأزمة، الأمر الذي يؤكد تعنتها ورفضها لأي تسويات، ما يعكس نيتها مواصلة سياستها الهادفة إلى زعزعة استقرار وأمن المنطقة، ومخالفة تطلعات ومصلحة الشعب القطري الشقيق".

وهنا سيُجهد الحاكم القطري نفسه، وسينفق بلا حساب، بحثا عن أحضان غريبة تعوضه عن أحضان قريبة، وتعينه على أشقائه الغاضبين عليه، وسيجد نفسه وقد أصبح حصان طروادة إيرانيا، أو تركيا أو غيرهما، ولكن بعد فوات الأوان، وسيخسر آخر أمل في عودة الفرع إلى أصله وفصله، وعودة النهر إلى مصبه القديم، وأنه واقعٌ في أسر جيوش وحكومات ومخابرات لا ترحم، ومستشارين يُتقنون مهنة حَلب البقر الحلوب، وقد سقطت البيضة الذهبية في أيديهم دون عناء ولن يتركوها بسهولة.

والسؤال، ما الذي كان أجبره على وضع نفسه وشعبه في هذه الزاوية المغلقة؟ وأيهما أرخص له ثمنا، وأقل حيرة، وأوفر كرامة، الاعتراف بالخطأ والعودة إلى السراط المستقيم، أم الجري شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، بحثا عن ناصر ومعين؟