رغم الإخفاقات الكبيرة والمتكررة للسياسة التركية حيال الأزمة السورية، والتي انعكست سلبياً على تركيا داخلياً وخارجياً، فإن الحكومة التركية لا تزال مصرّة على الاستمرار في هذه السياسية، وكذلك إظهار نفسها بمظهر المنتصر.

الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أعلن بعد أشهر من انطلاق عملية "درع الفرات"، أن العملية أنجزت جميع الأهداف التي انطلقت من أجلها. وبدوره صور الإعلام التركي تلك الحملة كإنجاز كبير ونصر تاريخي لتركيا وجيشها.

لكن في الواقع بمجرد النظر إلى الفترة الزمنية التي استغرقتها تلك العملية، والتي خالفت كثيراً توقعات وتخمينات المسؤولين الأتراك، الذين كانوا يعتقدون أنها مسألة أيام وجميع المناطق المستهدفة ستخضع لسيطرة قواتهم والفصائل المسلحة المتعاونة معها، يمكن معرفة حجم الخلل والتخبط في الحسابات التركية السياسية والعسكرية إزاء الصراع في سوريا.

يعلم الجميع أن عملية درع الفرات، كان من بين أهدافها المعلنة، عدا عن الحؤول دون الربط الجغرافي بين المقاطعات (الكانتونات) الكردية، هو إخراج قوات سوريا الديمقراطية، والسيطرة على المدن والبلدات التي حررتها تلك القوات غرب نهر الفرات، لا سيما مدينة منبج، التي جنّ جنون المسؤولين الأتراك بعد أن دخلت إليها القوات الكردية والفصائل العربية المتحالفة معها.

عندما سيطرت قوات الجيش التركي، بمساعدة المجموعات المسلحة التابعة للائتلاف الوطني السوري، على مدن جرابلس وإعزاز والباب، دفعت بحشود وتعزيزات عسكرية كبيرة إلى حدود مدينة منبج، وأعلن المسؤولون الأتراك حينها أن "درع الفرات" مستمرة حتى السيطرة على كامل مدينة منبج، وعادوا إلى خطاب الخطوط الحمراء والتصريحات الرافضة لأي تواجد كردي غرب الفرات. لكن، لم تمضِ أيامٌ حتى خرج أردوغان بـ "خطاب النصر" معلناً انتهاء العملية، بعد أن قال إنها تكللت بالنصر وأنجزت كل أهدافها!

عملية درع الفرات أثبتت أن خطاب التهديد والوعيد التركي لم يعد له أي أثر أو نتيجة، وأن تركيا لا يمكنها أن تخطو خطوة واحدة إلى الأمام داخل الأراضي السورية، خارج إرادة الفاعلَيْن الرئيسيين في الأزمة السورية، أي روسيا وأمريكا. وإذا كانت تركيا قد تلقت الضوء الأخضر من روسيا للبدء بعملية درع الفرات، فإنها في المقابل اصطدمت بالخط الأحمر الأمريكي أمام حدود منبج، وكان رفع العلم الأمريكي حينها على حدود منبج كافياً لأن يضع حداً للتمدد التركي، ومن ثم الإعلان مباشرة عن انتهاء العملية المذكورة.

ولتيقّن تركيا استحالة أن تنجح سياساتها ومشاريعها في سوريا، بدأت بالتقرب من حلفاء النظام السوري، روسيا وإيران، وكان من ثمار هذا التقارب اتفاق الدول الثلاث عن مناطق "خفض التصعيد". الحكومة التركية علقت آمالاً كبيرةً على هذا الاتفاق، نظراً لأن من بين مناطق خفض التصعيد، هناك مدينة إدلب، التي ترى فيها خطوة مكمّلة لمخططها التوسعي في شمالي سوريا، والهادف إلى عرقلة المشروع الكردي.

لكن يبدو أن تركيا وقعت في الفخ مرّة ثانية، فهي لم تجنِ حتى الآن أية فائدة من ذلك الاتفاق، بل كان المستفيد الأبرز منه هو النظام السوري. وفي الوقت الذي يسري فيه مفعول الاتفاق في ثلاثٍ من مناطق خفض التصعيد، المتفق عليها، لا يزال الخلاف على أوجه فيما يتعلق بكيفية وطريقة تثبيت الهدنة في المنطقة الرابعة، أي إدلب، والتي كانت تركيا تعتقد أن الاتفاق سيطلق يدها في تلك المنطقة، بحيث تكون منطقة نفوذ لها، وبالتالي تتمكن من خلالها من التأثير على مجمل الأحداث ومسار الحل في سوريا.

تركيا تريد أن تدير الهدنة في إدلب مع القوات الروسية، لكن هذا ما لا تريده كل من روسيا وإيران، والنظام السوري بطبيعة الحال. لأنه حتى وإن كانت تركيا قد تلقت الضوء الأخضر من هذه الأطراف للتوغل في مناطق بشمالي سوريا، فإنها لا يمكن أن تسمح بمزيد من التمدد والتوسع التركي داخل الأراضي السورية، لأن من شأن ذلك أن يجعل من تركيا رقماً صعباً وقوياً في المعادلة السورية، وهذا بالتأكيد لن يصب في مصلحة الأطراف المذكورة. وحول هذه النقطة تحديداً علّق محلّلون روس أن روسيا في نهاية المطاف تريد أن تعود إدلب، وكذلك المناطق الخاضعة الآن لسيطرة تركيا، إلى كنف النظام السوري. ولهذا لا يمكن أن تغفل روسيا العراقيل التي قد تضعها تركيا أمام مشاريعها في المستقبل، في حال لو أفسحت لها المجال لتقوية شوكتها في سوريا.

الآن، تبذل تركيا قصارى جهدها من أجل أن يُسمح لها بالتوجه نحو إدلب، عبر شنّ عملية عسكرية تحت مسمّى "سيف الفرات". ونظراً لعجزها عن الإقدام بمفردها على خطوة من هذا القبيل، فلا تزال تتقرّب وتتودّد إلى روسيا، أملاً في أن تتلقى منها الضوء الأخضر. لكن يبدو أن الموافقة الروسية لن تأتي. لا حالياً ولا مستقبلاً. أولاً، لأن دخول تركيا لا يتماشى مع مصلحة روسيا وإيران، والنظام السوري بطبيعة الحال، لا سيما في هذا الوقت الذي يجري فيه الحديث عن قرب انتهاء الصراع. ولا شكّ أن الأطراف المذكورة تتساءل الآن عن جدوى السماح لتركيا لوحدها بدخول إدلب، في وقت تجد نفسها قاب قوسين أو أدنى من الخروج منتصرة من الحرب. ثانياً، لأنه ينظر إلى إدلب الآن على أنها قضية دولية، وجميع الأطراف الفاعلة في الأزمة ترى أن من حقها المشاركة في معركتها المؤجلة. لذا فإنه حتى موافقة روسيا قد تكون غير كافية للتوغل التركي في إدلب، لأن هناك أمريكا التي تلمّح إلى أن إدلب ليست خارج حساباتها، وهي في الواقع تمتلك الذريعة للمشاركة في معركة إدلب إن وقعت، لجهة وجود جبهة النصرة، التي لا تفرق واشنطن بينها وبين تنظيم القاعدة، هذا الأخير الذي كان على الدوام حجة واشنطن الجاهزة للقتال في أي مكان أرادت أن يكون لها يدٌ ودورٌ فيه.