&

لقد كان الاختلاف سببا هاما للخلاف في تاريخ البشرية، فالاختلاف في لون البشرة أدى للتفرقة العرقية، واختلاف الرأي الديني والمذهبي أدى للخلافات الطائفية، والاختلاف العقائدي أدى للخلافات العقائدية، والاختلاف القومي أدى للخلافات القومية. وعاشت المجتمعات البشرية هذه الخلافات في الغرب والشرق، ودفعت شعوبها ثمنا غاليا بالعبودية والاستعمار والنازية، والحروب الدينية والطائفية، بالإضافة لحروب القرن العشرين المدمرة.

وبدأت بعض دول العالم تعي خطورة الخلاف، فطورت ديمقراطيتها وأنشأت برلماناتها، لكي تعالج اختلافاتها في اروقتها، ووحدت جهودها أيضا لمحاولة حل خلافاتها الدولية في الأمم المتحدة. وبدأ مؤخرا يعي الشعب الأمريكي خطورة الخلاف بعد فشل حرب العراق، وقد علق الكاتب الأمريكي كليد بريسوتز يقول: "أمريكا ليست واعية اليوم، وبسعادة، بأنه في المستقبل القريب لن يكون من الحكمة التفكير بأهداف قوتها، وذلك لأنه لن يكون هناك أي قوة لتحتاج لها أهداف. نعم ستكون هناك مظاهر قوة، فستبقى القوات الأمريكية في اليابان وكوريا، وسيتجول الأسطول السابع في غرب الباسيفيك، وسيستمر تسعير النفط بالدولار، ولكن قوتها الحقيقة ستتبخر. وقد أزالت الصين الولايات المتحدة كأكبر سوق عالمية، وأخذت مواقعها في العديد من الصناعات الرئيسية...ويزيد النقص في الميزانية الأمريكية عن 7% من الإنتاج ألأجمالي المحلي، وتزداد الديون التي تستلفها لحوالي إلف مليار دولار سنويا. وخلال العشر سنوات القادمة ستساوي التزامات ديونها مع الإنتاج الإجمالي المحلي السنوي. كما يعتمد الاقتصاد الأمريكي كلية على الديون المستمرة التي يستلفها." وقد بدأت الإدارة الأمريكية مؤخرا بالحوار المباشر مع كوريا الشمالية لمنع المجابهة في الخلاف النووي الخطير، وتبدل جهودا جادة لمنع انتشار السلاح النووي في منطقة الشرق الأوسط. فتصور عزيزي القارئ كيف تستنزف الخلافات اقتصاديات الدول العظمى، وكيف سيكون مستقبل دولنا حينما تبتلي بطاعون الخلافات وبالأخص الدينية منها والطائفية.

وقد عجبني مقال للصحفي الأمريكي وليام بابف يحلم بحكمة الذكاء في التعامل مع الخلاف في مقال بجريدة اليابان تايمز يقول: "لنتخيل بأن العلاقات الإيرانية الأمريكية أخذت منحى آخر بعد الثورة الإيرانية. ولنحلم حينما حوصرت السفارة الأمريكية في طهران في بداية الثمانيات، حملت واشنطون مسئولية الخطف الحكومة الإيرانية بمخالفتها القوانين الدولية، وأعلنت رسميا الحرب على طهران. ثم حجزت الإيرانيين الموجودين في بلادها، وطلبت من الصليب الدولي بالعمل لتبادل الأسرى. ولنفترض بعدها، تعترف الحكومة الأمريكية بحكومة طهران الجديدة... وتحل خلافاتها المعلقة من خلال محكمة الأمن الدولية. لتكن قد تجنبت الحكومة الأمريكية المعضلة النووية الإيرانية، ولما حدثت الحرب العراقية الإيرانية ولا الغزو الأمريكي للعراق، (ولما دمرت العراق وقوتها، ولربما تجنبنا خراب الربيع العربي). ولنتصور بأن الصداقة الأمريكية الإيرانية رجعت، بسيطرة المعتدلين، فسنستغرب للنتائج الايجابية المرافقة لحكمة التصرف." فتصور عزيزي القارئ، لو تعاملنا بخلافاتنا العربية المحلية والإقليمية والدولية في القرن الماضي بهذه الحكمة، فكيف سيكون حالنا اليوم.

ولننتقل لليابان لنلاحظ كيف استفادت من حكمة تجربة دمار الحرب العالمية الثانية للوقاية من الخلاف. فمثلا نلاحظ المواطن الياباني يزور معبد الشنتو حينما يحتفل بولادة طفله، ويزور الكنيسة حينما يحتفل بزواج ابنته، ويزور معبد بوذي حينما يفقد عزيزا. وتستغرب بتناغم الفرد الياباني مع ثلاثة من الأديان والعديد من المذاهب المختلفة، وهناك أكثر من مائة وستين معبدا، وثلاثين ألف كنيسة في اليابان، ويصل عدد زوار بعض هذه المعابد لأكثر من سبعة ملايين زائر سنويا. وترجع عقيدة الشنتو لأكثر من ستة وعشرين قرنا، وحينما انتشرت البوذية مع الحضارة الصينية في القرن السادس، تقبلوها الشعب الياباني بتناغم جميل، كما تقبلوا حضارة الصين واستفادوا منها، كما آمنوا بمقولة بوذا، الذي يعتبر رسول من أهل الكتاب: "لا تؤمنوا بشيء، لا يهم من أين تقرءوه، ولا من قاله، ولو سمعتموه مني، إلا إذا كان يتفق مع منطق العقل والفطرة البشرية." والسلوك اليومي للفرد الياباني ملتزم بأدب التواصل واحترام الآخرين، وحب الغير والعمل كفريق واحد، وكره الفردية وصدق المعاملة، والتفاني في العمل وإتقانه. فالياباني لا يتكلم عن الدين ولا يهتم كثيرا بطقوس الدين ولا يفرق بين مذهب وآخر بينما يمارس الأخلاقيات الدينية بانضباط.

والسؤال المحير: ما السر في أن بعض الأشخاص يتقبلون، بل يحترمون اختلاف غيرهم، ويحاولوا أن يتفهموا ويتعلموا من هذا الاختلاف، ويستفيدوا من ايجابياته، كما يقدرونه كثقافة جديدة تغني ثقافة الأم؟ وهل هذا السر خبرة مكتسبه أم ميزة موروثة؟ وقد درس العلماء ظاهرة سر تعامل البعض مع الاختلاف بتناغم جميل. ومن خيرة العلماء الذين بحثوا في هذا المجال طوني بوزان. فقد درس سلوك الذهن البشري وطريقة تفكيره وأساليب تطويره، كما أستطاع أن يطور نظرية الخارطة الذهنية، ويتعرف من خلالها على كيفية التقاط الذهن للمعلومات وتحليلها وتوجيهها وربطها بالسلوك الإنساني وقراراته.

وقد جمع بوزان دراساته وأبحاثه في كتاب بعنوان، الذكاء الروحي من خلال معرفة الحياة وموقعنا فيها. ويعرف الذكاء الروحي بأنه اختيار الإنسان بين الأنا الذاتية الجسمية والأنا العليا الروحية التي تتفهم الحياة بواقعها المادي وحقائقها الغير ملموسة. ووصف ظواهر للذكاء الروحي منها التعرف على النفس من خلال الأنا العليا، وبتفهم الحياة بقانون مسبباتها وتأثير تلك المسببات، أي بأن الشخص مسئول عن حياته وتفكيره وعقائده، ولا يستطيع أن يلوم الآخرين لما يعيشه. وبأن الإنسان غير مرتبط بالضرورة بنتائج أعماله، أي حينما يؤدي الإنسان عمله بكفاءة، يجب أن يكون مستعد لتحمل النتائج الغير الإيجابية أيضا. وتستعمل أدوات مختلفة لتطوير الذكاء الروحي كالتأمل والتبصر، والعبادة، بالإضافة لوعينا للخوف والغضب والتمرين المستمر لنتقهم بما في أفكارنا وعواطفنا وسلوكنا.

ويؤكد العلماء بضرورة أن تكون نظرتنا للذكاء شاملة، أي تبدأ من أسفل هرم الذكاء والمرحلة البدائية منه وهو الذكاء الجسمي، وهو وعينا بمهارة استخدامنا للجسم والمحافظة عليه. والدرجة الثانية في هذا الهرم الذكاء الذهني، وهو درجة دقة إمكاننا في حل معضلات المنطق الكلامية والرياضية. والدرجة الثالثة هي الذكاء العاطفي المتعلق بالسيطرة على عواطفنا في تعاملاتنا، والذكاء الاجتماعي المسئول عن لطف تعاملنا مع الآخرين. وأعلى درجات الهرم من الذكاء هو الذكاء الروحي وهو حكمة الأنا العليا الموجهة بالرحمة والتوازن بين الطمأنينة والأمان الداخلي والخارجي. ويعتقد العلماء بأن الإنسان يحتاج لدرجة معينة من الذكاء الجسمي والذهني والعاطفي والاجتماعي ليستطيع أن يطور حكمة ذكائه الروحي. وتبدأ هذه الرحلة بمعرفة النفس والإحساس بكيفية التعاطف مع معضلات الآخرين، ويتداخل بعدها الذكاء الروحي والذكاء العاطفي لتطوير بعضهما البعض. ويشمل الذكاء الروحي الوعي ببواطن النفس والسيطرة عليها، والوعي والإحساس بمشاكل الآخرين، والوعي بالروحانية وتوجيها بشكل سليم، والسيطرة الاجتماعية على النزوات.

ويعقب بوزون فيقول: "إذا كان الذكاء الذهني يتعلق بالتفكير، والذكاء العاطفي بالعواطف، فأن حكمة الذكاء الروحي تتعلق بالسؤال عمن نكون، وبدور بصيرة الروح والرحمة في حياتنا وعملنا كأشخاص." وقد أكتشف العلماء ذبذبات عصبية بدرجة 40 هرتز على سطح المخ البشري، ويعتقد بعلاقتها بالوعي والعمليات المرتبطة بحكمة الذكاء الروحي. ويحدد العلماء خواص الذكاء الروحي بالحكمة وتشمل العلم بمحدودية المعرفة، والصفات المرافقة، كالشجاعة والنزاهة وسرعة البصيرة والرحمة وحب الآخرين. وتبرز حكمة الذكاء الروحي في التعامل مع الحياة والعمل بشمولية، من خلال الإبداع والتعبير عنه بإشكال مختلفة من الفن. كما أن سرعة بصيرة الإدراك هي جزء من ذكاء اللاوعي وتكملة التفكير المنطقي وإصدار القرارات. وكلما نكون رحيمين بأنفسنا نكون أكثر رحمة بالآخرين، وتتبين الرحمة بالنفس من خلال حبنا لعملنا، اهتمامنا ببدننا وصحتنا، وبالأكل الصحي والرياضة، وتغذية أرواحنا بعلاقات حميمة، والعيش في بيئة آمنة وغير ملوثة، والتسامح مع أنفسنا حينما نخطئ.

وتبين النظرة الشمولية للحياة بأننا كائنات بجسم وذهن ونفس وروح، مترابطة ومرتبة بحيث أن شموليتها يزيد عن جمع أجزاءها. ومن الضرورة مراعاة الشمولية في التربية، ليتعلم الطفل خلق توازن بين أنواع الذكاء المختلفة، كما أن صحة الجسم مع التئام الروح ينبعان من مصدر مشترك، فلصحة الجسم نحتاج للمعلومة والمهارة لنحافظ على أجسامنا، ولصحة الروح نحتاج لالتئام أرواحنا بالحب والرحمة والتسامح. كما نحتاج لحكمة الذكاء الروحي في كل لحظة من حياتنا اليومية لخلق التوازن بين الواقعية والمثالية مع مراعاة قيمنا وأخلاقياتنا المجتمعية والدينية. ويبقى السؤال لعزيزي القارئ، هل سيهتم التعليم في وطننا العربي بتطوير مفهوم الذكاء الشامل؟ وهل سيمزج الذكاء بأنواعه المختلفة في معضلات خلافية، يناقشها الطلبة ليتعلموا من خلالها طرق التعامل مع تحديات الخلاف المجتمعية وكيفية الوقاية منها؟ وهل من الممكن أن نتصور نوعية الجيل الذي سينتجه هذا التعليم، إذا ترافق بتطوير المهارات العلمية والتكنولوجية في الألفية الثالثة؟