في لقاء سابق مع الراحل العظيم كاك نوشيروان مصطفى زعيم المعارضة بكردستان، سألته عن كيفية مواجهة الفساد المستشري بإقليم كردستان الذي بدأ ينخر جسد الحكومة والسلطة ويهدد مستقبل الشعب الكردي وتجربته الديمقراطية؟فأجابني" الأمر يحتاج الى مواجهة حاسمة ولايتحمل أنصاف الحلول ". موضحا " بعض أقطاب السلطة أبلغوني بإستعدادهم لتخفيف هذه الظاهرة المقيتة، ولكنهم أرادوا مني أن أغض الطرف عما سرقوه من المليارات لكي يتهنوا بها، وأن أتعامل معهم على قاعدة " عفا الله عما سلف "، وهذا ما لا أقبله أو أساوم عليه مطلقا ".

 رحل هذا القائد العظيم وإستمر الفساد الذي أوصل حال الأمة الى الحضيض وأحل بالإقليم الدمار والخراب، حتى عز على الموظفين البسطاء رواتبهم الشهرية وهي قوت أطفالهم.

لا أعتقد أن تتمكن لجان التدقيق التي شكلتها الحكومة الاتحادية مؤخرا من كشف أوجه الفساد الرهيب الذي يضرب كردستان منذ أكثر من عشرة أعوام، وخصوصا بعد تسليم موازنة الإقليم الى يد حفنة من السراق واللصوص، فأسطوات الفساد الذين يحكمون كردستان منذ 26 سنة هم أشطر من أن يكشفوا أساليبهم للسرقات والنهب من أموال الدولة بهذه البساطة حتى تتمكن لجنة تدقيق حكومية من الكشف عنها، فالمليارات التي سرقوها أودعوها في المصارف الخارجية بأسماء مختلفة قد لا تمت إليهم بصلة ظاهرا. بالاضافة الى الأساليب الملتوية التي لجئوا إليها في تبييض أموالهم بما يصعب كشفها بسهولة.

قد لا تعلم اللجان المشكلة اتحاديا أنه لحد يومنا هذا لايعرف أي شخص في كردستان كم هو عدد أفراد البيشمركة وعلى أي أساس تخصص الميزانية لهم.. وهكذا بالنسبة لمنتسبي مجلس أمن الإقليم وعددهم وتخصيصاتهم من الميزانية الحكومية، ناهيك عن رئاسة الإقليم التي لايعرف أحد مقدار ميزانيتها السنوية وأوجه صرفها، فهذه أمور تعتبر في عرف السلطة بالإقليم محرمة ولايحق حتى للبرلمان أن يسأل عنها.

حتى مفوضية الانتخابات التي تستعد حاليا لتنظيم الانتخابات البرلمانية القادمة، طلبت مرارا من مجلس أمن الإقليم الكشف عن عدد منتسبيه لكن دون جدوى، فهم لايكشفون عن تلك الأعداد ما يعرقل جهود المفوضية لتنظيف قوائم الناخبين من الأسماء المكررة، فالمعلوم أن منتسبي الاجهزة الامنية الذين يقدر أعدادهم بأكثر من 180 ألفا يصوتون في الانتخابات مرتين، الأولى بالتصويت الخاص، ثم بالتصويت العام تارة أخرى!

ولا أتحدث عن العقود النفطية التي وقعتها وزارة الموارد الطبيعية بحكومة إقليم كردستان مع الشركات الأجنبية والتي يمتنع وزيرها من كشف مضامينها أمام الشعب أو حتى البرلمان والحكومة بذريعة أن هناك شرطا جزائيا فرضتها تلك الشركات ولايسمح لحكومة الإقليم أن تكشف عن مضامين تلك العقود، وهذه حجة غريبة لا مثيل لها بقواميس أية حكومات العالم؟!

حين يتحدث السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء عن نيته بإسترداد الثروات المنهوبة وملاحقة الفاسدين، لا ندري ما هي الآلية التي يستند عليها لإستعادة تلك الأموال، فالمعلوم أن جميع تلك الأموال المسروقة مودعة في البنوك الخارجية بغير أسماء سراقها، ولا أعتقد بأن حملة مماثلة لما شنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بإحتجاز عدد من الفاسدين وإرغامهم على تسوية معينة، ينفع في الحالة العراقية، لأن المتورطين بالفساد هم رؤوس كبار لديهم كتل نيابية وسياسية كبيرة، فكيف يمكن ملاحقتهم وسوطهم مسلط على رقبة كل سياسي يطمح الى تبوء منصب رفيع في العراق بما فيه منصب رئيس الوزراء؟

عليه لامجال أمام السيد العبادي سوى خيارين أحلاهما أمر من الآخر، فإما إتباع سياسة " عفا الله عما سلب "، أو الشروع بحرب طاحنة ضد الفاسدين الكبار قبل الصغار، فهل سيستطيع فعل ذلك، أم أن ما نسمعه لا يعدو سوى دعاية إنتخابية، دعونا ننتظر ونرى، فالأيام القادمة حبلى بالمفاجئات الإنتخابية.