إن&تشابك&مصالح&الدول&الكبرى الفاعلة في تحديد السياسيات الدولية،&وصراعات&قوى الدول الإقليمية&في الشرق الأوسط،&علاوة على الأزمات الداخلية&الخاصة بكل دولة على حدا، حوّل بعض وسائل الإعلام العالمي والمحلي إلى ساحة مفتوحة لفوضى "التسريبات"&التي غالبًا ما تتنكر لها الجهات المعنية في مواقفها الرسمية المعلنة .&

وفي&وقت&يتروى&به&العقلاء&من&الاعلاميين&المحترفين&في ابداء&أرائهم&ويتريثون في الادلاء بوجهات نظرهم،&نجد&آخرين&ينساقون&إلى&التسرع في&الجزم&عبر&الخروج اليومي على الجمهور&للإدلاء&"بتحليلات"&فورية&واتهامات حاسمة&بشكلٍ&يصبح&المراقب&الحليم&فيه&حيرانًا.

ولسنا&هنا في إطار حصر الموضوع بقضية واحدة شغلت الرأي العالمي في الأسابيع الأخيرة&وهي&"اختفاء الكاتب جمال خاشقجي"،&ولكن هذه القضية كشفت زيف الموضوعية و وقوع بعض كبرى وسائل الاعلام، بما فيها&العالمية في فخ التسرع دون التأكد الفعلي من مصداقية المصادر، الأمر الذي دفع بعضها إلى الاعتذار عما تورطت في نشره&فيما بعد&.&

وفي هذا السياق&لا بد من التوقف&عند نقاط جوهرية عدّة، كشفت خراب الإعلام المحترف في عصر انفلات المعلومات، الذي&تحول&من مهمة تقديم المعلومة الموثقة&إلى استغلال القضايا الانسانية لممارسة هواياته كمُحاكم لإدانة هذا الطرف أو ذاك،&وتحولت وسائله كأفخاخ نُصِبَت ليقع المتابع في شراكها،&حيث&يتم التسويق&لموضوع&في إطار الدفاع عن قضية أو التهجم على طرف بصورة مدمرة للجميع &.&

النقطة الأولى&هي الإصطفائية&في&عرض&الأخبار&ونشرها، حيث يتحول "الخبر غير الموثق " إلى خبر رئيسي أول&ويُسلط&من خلاله&الضوء&على&معلومة&لم يتم التأكد من صحتها&بعد&، لتصبح&محورًا&أساسيا&في النشرة الإخبارية،&فيما&تغيب&كبرى&القضايا&الحاسمة، ويتحول خبر الحرب أو الكوارث الطبيعية التي قضت على آلاف البشر&الى&مجرد&خبر&ثانوي&أو&هامشي.&وهذا يطرح تساؤلا جوهريا عن مهمة تلك الوسائل في خدمة الإنسانية&&حيث أضحت أهدافها منوطة بتسويق الأجندات وتصفية الحسابات عبر&الاستئصال&الرمزي&للطرف&الآخر&أوالتصفية&المعنوية&له&.

النقطة&المحورية الثانية هي الادعاء بامتلاك "الحقائق"، حيث تعمل بعض وسائل الاعلام على تقديم "المعلومة الغير موثقة " على أنها "حقيقة مبرمة " مع ما يتضمن ذلك من&انتهاك&لحقوق&الأخرين&وخصوصيتهم&والإساءة&إليهم&.

النقطة الثالثة هي ظاهرة تفشي&"المحللون&الجدد"، حيث تعمل بعض وسائل الاعلام على استضافة انتقائية لشخص تعتبره محللا سياسيا أو&خبيرًا&استراتيجيًا للتعليق على "معلومات" والادلاء بالتوقعات المحتملة في قضايا لم يجزم بها بعد ، وبدلا من يكتفي هذا الشخص بالادلاء "بوجهة نظر" يُفترض أن تكون محايدة،&فإنه يعمد إلى تقديم الأحكام الجازمة والآراء القطعية&الحاسمة،&بل والأخطر&منذلك،&أن&بعض&هؤلاء&أصبح&&يحيك&الروايات&والحكايات ويروج&شَائعات&ويبني&عليها&مواقف،&وكأنه&شاهد عيان على كل&شاردة و&عالمًا في كل&واردة&.&في حين أنه من شروط الأسياسية لاستضافة أي محلل هي&تَحلّيه بقدر من الموضوعية وعدم الجزم في الفرضيات والاكتفاء بشرح وجهة نظره &وفق معطيات واضحة .&

إن&ما&تزرعه&بعض&الفضائيات&في&العقول&من&صور ومفاهيم&في&النفوس&عبر&الهواجس&والتهويمات&والشتائم سيؤدي&إلى&ما&لا&تحمد&عقباه،&لأنه&لا&يولد&إلا&التوترات ومزيد&من&الكراهية&. ولعل&وسائل&"الاعلام&الحرة العريقة"&مُطالبة&وأكثر&من&أي&وقت&مضى&إلى&تجديد&أشكال المصداقية&والمشروعية،&وتطوير البنى&المعرفية&والسياسية،سواء&لجهة&عرض&المضمون&الخبري&أو&وجهته،&وبدءًا&من المفاهيم&والمصطلحات&وصولا&إلى&طريقة&التعامل&مع الأحداث&التي&تطلب&قدر&من&الحكمة&والتروي&في&التعاملمعها،&&مما&قد&يفتح&أفقا&مغايرًا&لما&نشهده&من&إعلام&التهجم و&الاعلام&المضاد&له&الذي&لا&يرقى&بدوره&إلى&المستوى المطلوب&،&حيث&ينجر&الشقيْن&إلى&مسرحية&يتم&فيها&تبادلا لاتهامات. &

على&أية&حال&إن&انتقاد&الاعلام&وأدائه،&لا&ينبغي&أن&ينحى بحال&من&الأحوال&إلى&الحدّ&من&الحريات،&إذ&أن&بعض السلطات-&لاسيما&في&الدول&العربية&- &تسعى&إلى&استغلال أخطاء&الإعلاميين&للتضييق على&الحريات&وجعل&ذلك&حجة لقمع&الصحافة،&بل&إن&شفافية&السلطات&السياسية&واطلاق حرية&الإعلام&من&شأنها&أن&تؤسس&لإعلام&حرّ&منطلق&قادرعلى&التعامل&بموضوعية&مع&تحديات&العصر&بعيدًا&عن&كل الاصطفافات.&

أخيرا،&فهل السلطة&الخامسة&"سلطة&الاعلام&"&التي أضحت&منفلتة&في&الزمن&الرقمي&الكوكبي&قادرة على&إدارة القضايا&المحقة&والعادلة&بعيدًا&عن&الاستهلاك&الفضائحي"&لينحط&الخطاب&إلى&درجة&الاسفاف؟ وهل&يمكن&أن&يمارس الصحفيون&والإعلاميون&عملهم&عبر&إدارة&عقلانية&منتجة لصيغ&مبتكرة&بعيدًا&عن&تداول&"تسريبات"&غير&يقينية&تسعى&لإثارة&المشاهد&وحشره&في&زاوية&رأي&أو&ادخاله&فيخرم&فرضيات&قد&تصيب&أو&تخيب؟!

نعم،&عندما&يعي&القيمون&على&الإعلام&وخبرائه&أن&الهدف النبيل&لا&بد&وأن&يكون&بنَّاءًا ومفيدًا&يتيح&للمتابع&الرؤية الواضحة&لمجريات&الأحداث&بقدر&كبير&من&الموضوعية والاحترافية&ويسعى&إلى&ترسيخ&التبادل&الفاعل&لعيش&الأمم على&أسس&حضارية&ومدنية، والتفاعل&بمنطق&وسطي علائقي&يؤسس للسلم&،&فعندها&سيسعى&لاعتماد استراتيجية&حوار&ناجح&وفعال&لبناء&مثمر&لا تخريب مستمر.