أغلب الشعوب تسعى للتطور وتمضي فيه، إلا الشعب العراقي وكم شعب مِثل وجهَه الطيب، يُشعِرك بأن تطوره بات عصياً، لأنه ليس متوقف فقط لا بل يعود القهقري الى الخلف، والسبب هو أنه شعب لا يعرف ثقافة التعلم من الخطأ التي تسير عليها أغلب الشعوب الواعية التي تعلم جيداً أن تطورها مرهون بتصحيح أخطائها وتجاوزها كي لا تعرقل مسيرتها، والتعلم من الخطأأمر يتحكم به العقل بعيداً عن العاطفة، لكننا شعب لا يُحَكِّم عقله بل يطلق عنان عواطفه كي تحكم على الشخوص والاحداث، وهو ماحدث مع السياسي الراحل أحمد الجلبي ووفاته التي صادفت أمس ذكراها الثالثة، فالعراقيون لم يقيّموا شخصيته في حياته أو بعد مماته على أساس العقل، ولطالما حَكَموا عليه عاطفياً سلباً أو إيجاباً وانقسموا بين عاشق هائم به وكاره حاقد عليه، وهو لا يستحق هذه ولا تلك إذا أردنا أن ننظر الى شخصيته ونقيمها بموضوعية.

كان الجلبي عَرّاباً للمعارضة العراقية وليس للاحتلال كما يحلو لمبغضيه تسميته، فالاحتلال جاء كتحصيل حاصل لحماقات داخلية ومخططات خارجية. لقد تحدث لي أحدهم مرة عن كيف أن المعارضة العراقية حينما كانت تسعى للحصول على تأييد لورقة عمل من الكونغرس، كانت تحتاج أسابيع لتجمع تواقيع عشرة نواب، في حين كان الجلبي يأتي بتواقيع 50 نائباً بأيام معدودة! كما حكى لي آخر بأنه حينما كانت تحصل خلافا تبين أقطاب المعارضة العراقية في مؤتمر لندن، فالشخص الوحيد الذي كان يأخذ هذا أو ذاك على صفحة لينهي هذه الخلافات،وكان لَولب المؤتمر بلا منازع هو الدكتور الجلبي! وبالتالي فالنخبة السياسية الحالية البائسة عموماً تدين له بوصولها الى سدة الحكم، ولولاه لكان أغلب أفرادها الذين يحكمون اليوم صايعين ضايعين بمشارق الأرض ومغاربها بكل ما لهذه الكلمة من معنى.

مِن سيّئات الرجل وحَماقاته التي لا تغتفر، تأسيسه لما سُمّي بالبيت الشيعي الذي مَثّل حَجر أساس للطائفية السياسية بالعراق، وسَماحه لزعران حسبوا على تياره بسرقة ممتلكات الدولة العراقية، أو قيامه بتسريب شفرات الأمريكان لإيران، ثم ترشّحه للانتخابات عن التحالف الشيعي. لكن هـذا لا ينفي جوانب أخرى قد تكون إيجابية في شخصيته الإشكالية، فهو خلوق ومثقف بعكس أغلب أولاد الشوارع الذين يحكمون اليوم، كما أنه لم يكن طائفياً كما يُشاع عنه وكما حاول هو نفسه التظاهر بذلك، فقد بقي حريصاً على إدامة حبل الود مع قيادات الكُرد بعيداً عن العدسات، بعد أن بدأ أغلب أقرانه يقلبون لهم ظهر المجن بعد وصولهم الى السلطة. كما عمل في الخفاء بجِد وجُهد على التواصل حتى مع أشد قيادات السنة رفضاً للعملية السياسية كالراحل حارث الضاري مثلاً، الذي كانت تجمعه به لقاءات سرية بهدف تهدئة الأجواء وإشراكهم بالعملية السياسية التي قاطعوها لفترة بعد الاحتلال، وقد أخبرني بذلك أخ عزيز أثق بكلامه ثقة مطلقة كان مطلعاً على الموضوع. كما ساهم قبل وفاته بإزاحة المالكي وتصدى لسياسته الطائفية، وساهم بكشف ملفات فساد خطيرة، وهو داهية سياسة، وعبقري تجارة،وصاحب علاقات دولية مهمة، كان بإمكانه أن يُسَخّر كل هذه الأمور لكسب ود الناس وخدمة بلاده، لكنه اختار طريقاً آخر هبط به من القمة التي كان يمكن أن يعتليها، وخسر به نفسه ولم ينفعها ولم ينفع به بلده بل وأضرّ به وبشعبه.

ما حَدث مع الراحل أحمد الجلبي، سياسياً على الأقل، هـو أمرلا يمكن للمَرء أن يمُر عليه بعُجالة، إلا اذا كان عراقياً طبعاً، بل يفترض أن تستخلص منه الدروس والعبر. فقد بدأ الرجل قطباً بالمعارضة العراقية ثم رقماً صعباً فيها ثم زعيماً لها، وقام بمعجزة تجميعها وتوحيد أهدافها بعد عقود من التشَظّي والخلافات، وهو أمر مِن شُبه المستحيل تحقيقه مع العراقيين، ولا يمكن أن يفعله سوى شخص يمتلك كارِزما إستثنائية للقيادة والزعامة، ثم تحول الى صاحب لوبي مؤثر دولياً ساهم ونجح بإسقاط أحد أعتى الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط، لكن المفاجأة هي أنه انتهى الى قلم باهت غير مؤثر برسم صورة أحداث ما بعد إسقاط هذا النظام، والى رقم أقرب للصفرفي معادلة العملية السياسية التي أعقبته، بل وانخرط كعتلة في مشروع سياسي طائفي مقيت بعيد تماماً عن ما كان يسعى اليه ويرفعه من شعارات ويدعو له من اهداف، ثم جائت نهايته الغريبة! وهي كلها أحداث مهمة متتابعة متشابكة وأحياناً متناقضة كانت مفصلية ومؤثرة في تأريخ دولة وشعب، يجب على المَرء أن يدرُسها بهدوء وتعقّل وتعمّق، بعيداً عن المشاعر والعواطف، ليفهم من خلالها الأحداث وليتعلم الدروس، وأن لا يختزلها بالحب والحزن أو الكره والشماتة كعادة العراقيين!

هم لي والخوف على حياتي وحياة أسرتي،هي ذكريات حزينة ولاشك لن تمحوها الأيام من ذاكرتي حتى آخر العمر، كانت تلك الجرائم ترتكب والعالم صامت متشرنق في مصالحه، يبيع السلاح لكلا الطرفين المتحاربين ، ويبيع الغازات السامة لصدام ليقتل بها شعبه، أما الإعلام وخصوصا العربي فتلك حكاية أخرى......عيون مصرية رجائي فايد ( انتهى الاقتباس ) . وهنا لابد ان اقف عند بعض الاحداث التي تطرق اليها الكاتب كشاهد عيان ، عاش معنا في افراحا واطراحنا، واصبح شاهدا على وحشية وإجرام حزب البعث الفاشي في حقبة صدام حسين ( الحقبة الأشد دموية وتدميراً في تاريخ الشعب العراقي بشكل عام والشعب الكردي بشكل خاص ) . 1 ـ الحادثة التي ذكرها الكاتب القدير ( رجائي فايد ) على لسان إبن شقيقته الذي كان يعمل حينئذ مدرسا بكلية الطب جامعة (صلاح الدين ـ اربيل ) ، كانت في يوم 16 نيسان عام 1987 عندما تعرض (وادي باليسان) الواقع في محافظة أربيل ولاول مرة الى هجمات بالأسلحة الكيمياوية من قبل الطائرات العراقية و التي أدت الى قتل (103 )شخص وإصابة حوالي( 346 ) من أهالي قرية (باليسان وشيخ وسانان )الواقعة قرب الطريق العام (جوارقرنة - خليفان ) والتي تم نقلهم بعد الضربة الكيمياوية مباشرة بعربات تجرّها التراكتورات من قبل اهالي القرى المجاورة الى مستشفى مدينة (رانية ) ومن هناك تم نقلهم الى طواريء مستشفى أربيل المركزي بعد الاسعافات الأولية التي قدمت للمصابين في مستشفى مدينة (رانية ) . وبعد وصولهم الى مستشفى اربيل المركزي رفض الاطباء استقبالهم خوفأ من العقاب البعثي ، حيث جاءت في ذالك الزمان الأسود وحسب مصادر موثوقة كتبأ رسمية معممة من دوائر الأمن في بغداد والمحافظات على اطباء العيادة الخارجية والاطباء الخفر في المستشفيات ( تأمر )، بعدم تقديم أي علاج للجرحى والمصابين بالاسلحة الكيمياوية ، وعليه تم نُقِل المصابين الى سجن امن أربيل من قبل رجال الأمن والاستخبارات بعد أن علموا بخبر وصول الضحايا الى قسم الطوارئ في مستشفى اربيل ، وهنك تم عزل الرجال عن النساء ، وأخذوا الشباب والرجال بقصد استجوابهم الى جهة مجهولة ولم يًعرف مصيرهم لحد الأن ، اما النساء والاطفال فقد تم اطلاق سراحهم بعد ان بقوا في حجز امن اربيل لمدة 9 ايام ( حسب افادات شهود عيان كانوا يعملون في طواريء مستشفى الجمهوري المركزي انذاك وتحدثوا بالتفصيل عن الحادثة ) . وبعد انتفاضة اذار المجيدة وتحديدا في18 / 9 / 1991 تم العثور على رفات( 25 ) مغدور فقط من اهالي (قرية باليسان ) في قبر جماعي في مقبرة ( معمل قير جنوب اربيل ) كانوا من ضمن المصابين بالسموم الكيمياوية السامة في 16 ىيسان 1987 . ( راجع افادات الشهود والضحايا الناجين من الضربة الكيمياوية في نيسان 1987 ومنها افادة الشاهدة أديبة بايز والشاكية بدرية سعيد حضر والشاهدة بهية مصطفى محمود ) . 2 ـ يقول الاستاذ ( فايد ) في مداخلته : ( وفي أسواق أربيل رأيت الفلاحين يبيعون أغنامهم بأثمان بخسة، فلا طعام لتلك الأغنام ولا مأوى لهم ولا لأصحابها ) ( انتهى الاقتباس ) . نعم ..أن النظام العراقي البائد استطاع أن يحقق ( نصرأ ) كبيرا على المدنيين العزل وقرائهم الامنة وتحديدا في عام الانفال ، وعليه لم يكتفي النظام بالقصف الكيمياوي بل اتبع سياسة الارض المحروقة ، حيث تم حرق مساحات شاسعة من الاراضي الزراعية وجرت عمليات التهجير والترحيل القسري من القرى التي سميت بالمحضورة في قاموس النظام العراقي بعد ان حُرقت مزارعهم وبساتينهم المثمرة وبيوتهم الطينية ، حيث صدر (علي حسن المجيد ـ المعروف بـعلي الكيمياوي ) بعد ان عين حاكما مطلقا على كردستان ،صدر قرارا اثناء عملية الانفال الاكثر من سيئة الصيت وخاصة بعد ان نصب حامأ مطلقأ على كردستان من قبل ( صدام حسين ) و بالتحديد في 3 / 6 / 1987 قال فيه نصا وباخطائه اللغوية والنحوية : :- 1ـ يمنع منعا باتا وصول اية مادة غذائية او بشرية او الية الى القرى المحظورة ايضا المشمولة بالمرحلة الثانية من تجميع القرى و يسمح للعودة الى الصف الوطني لمن يرغب منهم لا يسمح الاتصال بهم من اقربائهم نهائيا الا بعلم الاجهزة الامنية ، 2 ـ يمنع التواجد منعا باتا في المناطق المرحّلة من القرى المحظورة امنيا و المشمولة بالمرحلة الاولى و لغاية 21 / 6 / 1978 للمنطقة المشمولة بالمرحلة الثانية ، 3 بعد اكمال الموسم الشتوي و الذي يجب ان ينتهي في 15 تموز بالنسبة الى الحصاد و لا يجوز استمرار الزراعة فيه للموسمين الشتوي و الصيفي لهذا الموسم ايضا . 4 ـ يحرم كذالك رعي المواشي ضمن هذه المناطق 5 ـ على القوة العسكرية ضمن كل مقاطعة قتل اي انسان او حيوان يتواجد ضمن هذه المناطق و تعتبر محرمة تحريما كاملا ، 6 ـ يبلغ المشمولون بترحيلهم الى المجمعات بهذا القرار و يتحملون مسؤولية مخالفاتهم له ، للاطلاع و العمل بموجبه كل ضمن اختصاصه )( راجع الكتب الرسمية البعثية التي صدرت في عامي 1987 ـ 1988 المقدمة الى المحكمة العراقية العليا المختصة بالانفال ) . لقد اصبحت هذه النقاط قرارا جائرا وعمم على اجهزة القمع و الارهاب الصدامي ومنها : ( قيادة الفيلق الاول و الثاني و الثالث ، مديرية امن منطقة الحكم الذاتي ، مديرية المخابرات ، منظومة استخبارات ، مديرية امن محافظة اربيل ، قيادة فرع المكتب ، فيادة فرع صلاح الدين و قيادة فرع ديالى ) . يتبـع *رجائي فايد ، كاتب مصري مختص بالشؤون الكردية والعراقية عاش مع عائلته في ( هه ولير ) اكثر من 9 سنوات كاملة بدءأ من أول مايو 1979 حتى 26 اب 1988 ،عمل في التخطيط والمتابعة بالمنشاة العامة للدواجن في اربيل وثم في مديرية الثقافة الجماهيرية . لقد وثق الكاتب في كتابه( اربيل 88 هه ولير 99 ـ حتى لاتضيع كردستان) جرائم النظام البائد وتفاصيل الاعدامات الجماعية بحق الاطفال والشباب في شوارع اربيل ، اضافة الى ( دور رؤساء الدوائر من البعثيين ـ عربأ واكرادأ ـ والميليشيات والعصابات المسلحة البعثية على اختلاف انتماءاتهم القومية في تدمير كردستان ارضأ وشعبأ . 1 ـ ( اربيل او هه ولير ـ Hewlêr) وهو صيغة معدَّلة من ( هُورْ لَير ـ خُورْ لَير ) والتي تعني (معبد الشمس )، وهي اقدم مدينة في العالم من حيث بقائها مأهولة منذ نشأتها حتى الان ، قال (ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي ) في كتابه (معجم البلدان ) ، عن مدينة أربيل وقلعتها : ان اربيل هي قلعة ومدينة كبيرة في فضاء واسع من الأرض. ثم أصبحت القلعة مقرا للامير الاتابكي سنة 539هـ. يبلغ ارتفاع القلعة 415 م عن مستوى سطح البحر وعن سطح المدينة يبلغ ارتفاعها حوالي 26 م اما مساحتها فتبلغ 102.190 متر مربع.