قبل ثلاث سنوات، وتحديدا في&30&من شهر نوفمبر&2015، رحلت عن الدنيا المثقفة والباحثة المغربية الكبيرة، فاطمة المرنيسي. وكنت قد تعرفت على هذه السيدة الرائعة مطلع الثمانينات من القرن الماضي، خلال ندوة فكرية إنتظمت في المركز الثقافي الدولي بمدينة الحامات التونسية.&وقد حضر تلك الندوة مفكرون وكتاب وشعراء كبار من المشرق والمغرب، أذكر من بينهم هشام شرابي، وأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي وإبراهيم أبو اللغد، وعبد اللطيف اللعبي، والطاهر لبيب.

وكانت المناقشات التي تخللت الندوة ساخنة وممتعة وصريحة. وكانت الأفكار الجريئة تتطاير في سماء حديقة المركز مثل الشماريخ الملونة. ومنذ البداية كانت فاطمة المرنيسي من أكثر الحاضرين نشاطا وحيوية. وبقامتها الفارعة، وشخصيتها القوية، وملامحها النبيلة، كانت قادرة على فرض كلمتها وآرائها في ذلك المجلس الكبير الغاص بالرجال. وعندما قالت في واحدة من مداخلاتها الرصينة والشجاعة بإن حرية المجتمعات العربية مرهونة بحرية المرأة، وبإن أغلب من يصنفون أنفسهم ب"الثوريين"،&وب "الحداثيين"، هم في الحقيقة" طغاة مقنعون"، صفق لها الجميع بحرارة. وبتأثر بالغ،&قال الراحل الكبير :" هذه هي المرأة العربية التي نحتاجها اليوم لتحقيق الثورات الجذرية في عالمنا العربي".

بعد تلك الندوة التي أسالت الكثير من الحبر في جل وسائل الإعلام العربية، وطدت علاقتي بفاطمة المرنيسي، وبدأت أراسلها، وأتابع نشاطاتها. وعندما أكون في الرباط حيث تقيم، كنت أحرص على لقائها، فكانت تستقبلني بحفاوة. وعلى مدى ساعات طويلة، نظل نتحاور حول قضايا فكرية، وأدبية، واجتماعية. كما كانت تحدثني حول مشاريعها الجديدة، وحول القضايا التي تشغلها. ودائما كانت تبدي اطلاعاً واسعاً وعميقاً&حول ما يجد في العالم على المستوى الفكري والفلسفي، مؤكدة بذلك على أن المثقف الحقيقي هو ذاك الذي يعيش عصره، ولا يغفل عن شيء، كبيراً كان أم صغيراً. وعندما تتعب من الحديث، كانت تدعوني للجلوس في قاعة الاستقبال المرتبة على الطريقة الفاسيّة (نسبة الى فاس، مسقط رأسها) لتسمعني أغان من الفولكلور المغربي العتيق الذي كانت تعشقه.&&وعندما تكون منشغلة بكتاب جديد، كانت فاطمة المرنيسي، تغلق هاتفها فلا ترد على المكالمات، ولا تستقبل زواراً إلا" بعد أن تكون قد انتهت منه.

وفي أوسط التسعينات، مدعوة من الجامعات الألمانية، أقامت فاطمة المرنيسي في برلين سنة كاملة لم تنقطع خلالها عن التنقل بيم مختلف المدن لإلقاء محاضرات، والتحدث مع الجمهور حول الثقافة العربية، وحول الإسلام، وحول وضع المرأة في المغرب، وفي العالم العربي-الإسلامي عموما. وعندما جاءت إلى ميونيخ، حيث كنت أقيم آنذاك، تحدثت أمام جمهور غفير، جله من النساء، عن سنوات طفولتها وشبابها في فاس، مشيرة إلى أن وعيها المبكر بحرية المرأة اكتسبته من الوسط الاجتماعي الذي كانت تعيش فيه، ولم يكن ولن يكون أبدا تقليداً ولا محاكة للمرأة الغربية. وفي كل لقاء من تلك اللقاءات، كانت فاطمة المرنيسي تلاقي استحساناً كبيراً من قبل وسائل الاعلام الألمانية. وبذلك أثبت قدرتها الفائقة على نزع الكثير من الأفكار المسبقة والخاطئة، العالقة بالأذهان، مبرزة صورة مشرقة للمرأة العربية وهي تخوض معركة صعبة وشرسة ضد التخلف، والتزمت، والتخلف في أبشع مظاهره.