تخاذل الأحزاب والاستسلام الشعبي

من الآثار السلبية لضعف قيادات الأحزاب الكردستانية وتخاذلها في&مواجهة سياسات حزب البارزاني، أن هذا الحزب فرض سيطرته الكاملة على الوضع السياسي&بإقليم كردستان والإنفراد بقراراته دون حسيب&أو رقيب. فجميع المؤسسات الحيوية والرئيسية أخضعها&هذا الحزب&لسلطته، من رئاسة الإقليم الى رئاسة الحكومة الى مجلس أمن الإقليم. وهذا يعنى السيطرة&الكاملة&على السياسة الخارجية&عبر رئاسة الإقليم، والسلطة التنفيذية عبر رئاسة الحكومة، والأجهزة الأمنية عبر مجلس أمن الإقليم، وأخيرا&القيادة العامة للبيشمركة عبرشخص مسعود البارزاني. حتى السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان أصبحت بدورها أسيرة لسياسات هذا الحزب، حيث أنه بمجرد أن عارض رئيس البرلمان من حركة التغيير&في الدورة السابقة&تمديد ولاية مسعود البارزاني تم طرده من مبنى البرلمان ومارس نائبه من حزب البارزاني سلطاته الى نهاية الدورة.

وبالتوازي&مع هذه السيطرة الكاملة على السلطة، اصبحت ثروات الإقليم&بدورها تحت تصرف هذا الحزب عبر وزارة الموارد الطبيعية ( النفط ) وأصبح لهذا الحزب صلاحية توقيع عقود نفطية مع الشركات والدول من أهمها إتفاقية النفط مع تركيا لمدة خمسين عاما، الى جانب&الاتفاقية&المرتقبة أيضا مع تركيا بشأن تسويق الغاز الكردي.وإتفاقية النفط مع شركة " روسنفت " الروسية.

لقد أثرت هذه السيطرة المطلقة والنفوذ المتعاظم لحزب البارزاني على الوضع الداخلي للأحزاب الكردستانية، حيث تفجرت الخلافات داخلها بشكل رهيب، وكان لحزب البارزاني دورا مؤثرا وفاعلا في تأجيجها، عبر شراء ذمم بعض قيادات تلك الأحزاب.&فإنقسمت&هذه&الأحزاب على نفسها مما زادها ضعفا على ضعف.

فالاتحاد&الوطني وهو ثاني أكبر حزب في الإقليم تعرض الى انقسام كبير بسبب خروج برهم صالح وتأسيسه لحزب&التحالف والعدالة. ثم تفاقمت الخلافات بين أجنحة الاتحاد التقليدية ( جناح هيروخان ) وجناح ( كوسرت رسول ). وأدت تلك الخلافات الى ضعف القرار السياسي&داخل الاتحاد خاصة بعد أن انحاز عدد من قيادات الاتحاد الى جانب البارزاني&أثناء&حملته لفصل كردستان عن العراق عبر الاستفتاء.

وفي الجانب الآخر عانت حركة التغيير التي كانت&تعتبر الأمل الوحيد لاجراء تغيير في العملية السياسية بكردستان أيضا من ظهور خلافات في صفوفها، وخاصة بين قاعدتها الجماهيرية وقيادة الحركة، بسبب تذبذب سياسات تلك القيادة في التعاطي مع سياسات حزب البارزاني بعد وفاة مؤسسها نوشيروان مصطفى، وكذلك تخاذل الحركة في تحريك الشارع، حيث كان هذا الحزب يعتبر أحد أهم الأحزاب التي لديها قاعدة شعبية مؤثرة في الشارع الكردستاني،&ولكن رغم ذلك لم يكن لها&أي رد فعل تجاه طرد رئيس البرلمان ولا حين تم طرد وزرائها الأربعة من الحكومة، ولا حين تفاقمت الأوضاع المعيشية للمواطنين جراء قطع رواتب الموظفين الى اقل من النصف.

وكذلك ظهرت خلافات داخل قيادة الاتحاد الاسلامي بسبب انحياز أمينه العام لسياسات حزب البارزاني، ولا نتحدث عن الأحزاب الصغيرة الأخرى التي تعتبر دكاكين سياسية يملكها حزب البارزاني.&

الحزب الوحيد الذي استطاع أن يقاوم سياسات البارزاني كانت الجماعة الاسلامية التي دفعت ثمنا باهضا&بسبب معارضتها لتلك السياسات، آخرها حرمانها من دخول التشكيلة القادمة لحكومة الإقليم.

الملفت للنظر أن جميع هذه الأحزاب العريقة بكردستان تعرضت الى عقوبات قاسية من جماهيرها وقاعدتها الحزبية بسبب مواقفها المتخاذلة&أمام حزب البارزاني، فجميعها خسرت نسبة كبيرة من مقاعدها في البرلمان كعقوبة شعبية وخاصة في الانتخابات الأخيرة،ما عدا الجماعة الاسلامية التي حافظت على مقاعدها كمكافئة لمواقفها الجريئة.

وفي غياب&أي دور فاعل لهذه الأحزاب استطاع حزب البارزاني أن يقوم بتزويرات واسعة النطاق لنتائج الانتخابين الأخيرين لمجلس النواب العراقي والبرلمان الكردستاني مما ساعدته على تبوأ المرتبة الأولى بأغلبية ساحقة في البرلمانين الحاليين.

وفي مقابل ذلك أفقدت المواقف المتخاذلة للأحزاب الكردستانية ثقة الجماهير الشعبية بأي تغيير يتطلع اليه الشعب، وبات الشعب بدوره فاقدا للأمل بقدرة تلك الأحزاب في مواجهة دكتاتورية حزب البارزاني وإستسلمت للأمر الواقع. والغلطة الكبرى لهذه الجماهير كانت المقاطعة الغريبة للانتخابات البرلمانية والنيابية. فبحسب مصادر متعددة لم&تتجاوز نسبة الاقبال على الانتخابات في معظم مناطق كردستان عن 40%&، وهذا يعني بأن نسبة أكثر&من نصف المقترعين قاطعت ولم تدل&باصواتها، وهذا بالتحديد ما ساعد حزب البارزاني على&تزوير النتائج&. فلو إتسم هؤلاء بشيء من الوعي والعقلانية كان يفترض أن يذهبوا&لصناديق الاقتراع و يضعوا أوراقا بيضاء في&الصندوق حتى &لايستغل الآخرون غيابهم ويملئوا الصناديق&بدلا عنهم.

وجه الغرابة في كل ماحدث هو أن الشعب الذي يعاني عموما بسبب الأداء السيء والفاشل لحكومات البارزاني، والذي يعاني من كبت حرياته، ومن قطع رواتبه، وسرقة ثرواته، واضطهاد مثقفيه، وخسارة أراضيه بسبب السياسات المتعنتة لحزب البارزاني، مع ذلك يقاطع الانتخابات التي هي الفرصة الوحيدة للتغيير من دون إراقة الدماء&.

المشكلة الكبرى أن تسلط حزب البارزاني على مقدرات الإقليم سيكرس وسيبقى لفترة طويلة بحيث أصبح هذا الحزب&فعلا " الحزب القائد " الذي يسير الأمور الى عقود قادمة. فكما نرى اليوم فإن أفراد العائلة البارزانية يحكمون سيطرتهم المطلقة على جميع اجهزة الحكم، وخاصة في التشكيلة القادمة للسلطة. فهم سيعينون نيجيرفان البارزاني رئيسا للإقليم، ومسرور البارزاني رئيسا للحكومة، ودلشاد البارزاني رئيسا لمجلس الأمن الإقليم&،وسيبقى مسعود البارزاني هو المرشد الأعلى&لسياسات الإقليم، وبذلك لن يبقى أمام الأحزاب الأخرى سوى بعض المناصب الثانوية غير المؤثرة والتي لاتملك أية صلاحية أو سلطة فعلية مثل نائب رئيس الإقليم ونائب رئيس الحكومة، حتى رئاسة البرلمان لن تكون مؤثرة طالما أن رئيس الحكومة لايتعاون معها&ولا يقيم لها أصلا أي وزن في القرارات السياسية.

الحال يشبه تماما تجربة حزب البعث في العراق بعد&انقلابه في 17 تموز 1968، ففي البداية سيطر الحزب على مقاليد الحكم بإنقلاب عسكري وبدعم من قادة الجيش، ثم تحول الحكم الى العشيرة التكريتية، ثم تحولت الى العائلة الصدامية، وبذلك إستطاعوا أن يحكموا العراق لمدة خمس وثلاثين سنة متواصلة عبر&سيطرة العائلة على مقدرات الدولة السياسية والأمنية. وهذا ما ننتظره في إقليم كردستان، حيث بوادر حكم العائلة باتت أكثر من واضحة، وسيطرة العائلة البارزانية على مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية باتت حقيقة لايمكن تجاوزها أو التغافل عنها.