شاعر كبير طوته عن القراء مسافات الاغتراب والزمن البعيد لكن قصيدة واحدة يتيمة جعلت منه شاعرا كبيرا ومتفردا في عصره وما تلاه من عصور ، خلدته مأساته فاشتهر بها على مر التأريخ في وقت عجز مثله شعراء عديدين ومعاصرون يملأون الصالونات صراخا وتمتلأ بدواوينهم رفوف المكتبات وشاشات التلفزة ان يصنع لهم التاريخ اسما او يحفظ لهم رجلا كان او أمرأة او شاب من بلاد العرب حتى لو بيتا واحدا من الشعر رغم كل ما طبعوه ونشرو خلال حياتهم ولافتات انتاجهم اختفت في اول منعطف من منعطفات الحياة .

ابن زريق في سيرته نقرأ عن الإنسان العربي المغترب عن بلده طلبا للرزق الحلال ترك حبيبته وزوجته التي شبهها بالقمر عندما اشتدت عليه اوجاع ومرارة الغربة وتلقفه شبح اليأس وسهام الاحباط لانه لم يظفر في الاندلس بتحويشة العمر او عما كانت تصبو اليه نفسه التواقة الى العلى والغنى وسعة الرزق فقد سبقه الى بلاط الحاكم الاندلسي وشاة مغرضون وحاسدون قالو له يا مولانا السلطان اذا انت اعتنيت بابن زريق واكرمته ستجد بعد وقت لن يطول ان كل شعراء بغداد سيستقر بهم المقام هنا ، فأستمع لشعره الجميل والعذب ثم تركه نهشا للصمت والحيرة لكنه في قرارة نفسه قد اعجب به ايما اعجاب وأراد فقط ان يختبر غايات ومرامي ابن زريق في صدقية التعبير والاخلاص الا ان صبر شاعرنا نفذ وانقطعت انفاسه لطول انتظار وعناء رجاء تاركا لمحبي الشعر قصيدته اليتيمة المعروفة ..

( لا تعذليه فأن العذل يوجعه .. قد قلت حقا ولكن ليس يسمعه ) لكي تظل من اعذب وارق واجزل ما كتبه الشعراء الاولين عن العتاب والحسرة والم الفراق فهو اي الشاعر لم يكن بمقدوره في ذلك الزمان ان يعود ( بخفي حنين ) من الحاكم الذي سمع كثيرا عن حبه واكرامه لوفادة الشعراء اليه ثم كيف يلاقى زوجته الحنون والتي كثيرا ما عذلتهُ عن هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر وغير مضمونة النتائج ونصحته بقبول شظف العيش وقلة العمل في بغداد على مكابدة معاناة ومشاق سفر طويل فحينذاك لم تكن هناك طائرات نفاثة او سكك للحديد او سفن سريعة من فئة الخمس نجوم بل كانت فقط الجمال والبغال لكنها مشيئة الله تعالى في ان يصر ابن زريق على مقصده ويتوكل على الله طمعا في عطايا او منح تأتي اليه من رحلة طويلة وسعيدة يعود بعدها من الاندلس الى بغداد مستبشراً ليعانق بها فرحا محبوبته ويثبت لها خطأ حساباتها لكن للمنايا حسابات أخر فقد مات الشاعر كمداً وحزناً ولم يورث تحت وسادته سوى القصيدة اليتيمة في الاندلس الغالي ..

لقد استذكرت بعضا من خطوط ومعاني هذه القصة الرائعة لرحلة واحد من العراقيين النازحين في ذلك الزمان بينما تتقافز امام ناظري صور ملايين العراقيين الحيارى الان وهم يقطعون الفيافي والبحار والمحيطات بحثا عن اندلس تعوضهم ولو بصورة مؤقتة عن فردوسهم بغداد المدينة الساحرة التي استوطنها الاغراب وحل بها الخراب بعد ان كانت بهجة الانظار وشاغلة الدنيا .. 

اربعة ملايين او خمسة او ثلاثة لا يهم الرقم فالاكيد ان هناك خارج العراق بضعة ملايين من البشر لم يألفوا حياة الاغتراب عن بلدهم ابدا الا لغرض السياحة او طلب العلم ثم ان هذا الشعب الذي انعجن بأرضه كما يحلو لكثير من العراقيين ان يرددونها هو لا يمتلك في كل تاريخه اية خبرة او رصيد في موضوع الهجرة والأغتراب بسبب انه كان كبلد وعبر كل ماضيه مقصدا لأناس واقوام من كل اركان الدنيا وفدوا اليه أما طلباً للعلم في جامعاته ومدارسه او سعيا للعيش والعمل الشريف طلبا للرزق الحلال . 

كل من يرقب ويتابع رحلة او تغريبة العراقيين الحالية في العقدين الماضيين يصاب بالحيرة والدهشة هل ان هذه الاعداد الكبيرة من العراقيين الذين استقروا في مناطق جغرافية تتوزع من اوربا الى امريكا والبلاد العربية قد تكيفوا واندمجوا مع بيئاتهم الجديدة ام انهم لا زالو مثلما يصفهم صديق عربي تلقى تعليمه وامضى سنوات شبابه الاولى في بغداد انهم اي المغتربين العراقيين فقط في محطة ((ترانزيت)) فليس هناك شخصية مثل العراقي تحمل في داخلها كم هائل من الرفض للاغتراب بل حتى لمجرد التفكير به اصلا . 

وربما كان صديقي الفلسطيني محقاً عندما تُشاهد العراقيين في تجمعاتهم بديار المنافي ومحطات الاغتراب يحافظون على كل شئ متيسر من عراقيتهم من ملبس ومأكل ولهجة عراقية يتندر عنها محبي العراق ب ((شكو ماكو )) عندما يرغب الفرد العراقي المجبول بطبعة بمعرفة اشياء غير محددة وأخبار طازجة . 

لا اشك قيد انملة انهم فقط يعيشون لأجل العودة بلهفة الى حضن بلدهم الذي أكتوى راغبا او مرغما بنيران ليس لهذا المواطن المسكين يدا في صنعها ولا يريدها ولذا فتجد ان العراقيين يرسمون ويخططون لأحلام عودة سريعة نرجو ان لا تبتعد ويحملونها على اجنحة سياسيين عراقيين أوعدوهم بأنهم عائدون فصوتو لهم وللوطن الذي لم يغادرهم مطلقا فقط الذي غادرهم هو وسيلة النقل التي ينتظرون ان ترجعهم الى حضن وطن ليس مثل نار دفئه شئ حتى ان روائية عراقية قالت كل شئ في العراق مختلف عن الدنيا بل حتى الحب هناك فهو كسر ضلع .. 

رحم الله شاعرنا ابن زريق الذي قال في ربى الاندلس الجميلة استودع الله في بغداد لي قمراً .. نعم انه القمر الذي يتوق لرؤيته كل العراقيين في الخارج وليت فراقه لن يطول. رحم الله ابن زريق الذي مات ولم تعانق رفاته ثرى العراق الذي استطال ليله وهو القائل - رزقتُ ملكاً فلم أحسن سياستهُ .. وكل من لا يسوس الملك يخلعه ؟؟.

 

[email protected]