العظماء يرحلون ولكن لايموتون , يرحلون ولكن يستمرون بابداعاتهم المعرفية والثقافية والعلمية في إحداث التغيير إلى الأفضل : 

عن عمر ناهز الـ 72 عاما، ترجل يوم امس عن صهوة الفكر والعلم والبحث والفلسفة ,مدير معهد الدراسات العراقية في بيروت المفكر والباحث العراقي المعروف الدكتور( فالح عبدالجبارمحمود النعيمي) ( ابو خالد ) , مواليد بغداد عام 1946، رحل الدكتور إثر اصابته بأزمة قلبية اثناء تسجيل برنامج تلفزيوني ( عن العراق ) في العاصمة اللبنانية ـ بيروت ـ

رحل الدكتورو البيشمركة ( ابو خالد ) الذي افنى زهرة شبابه في التفاني بالنضال ونذر حياته لنصرة قضية شعبه والشعوب المضظهدة , تاركا خلفه إرثا كبيروغنيا من المؤلفات وترجمات الكتب المهمة التى قدمها للقارى العراقي والعربي والاجنبي ، فى كثير من المجالات (الاقتصادية والسياسية والاجتماعية) . 

رحل الدكتور ( ابو خالد ) بعيدا عن وطنه الذي أحبه ودافع عنه بسلاح الكلمة الحرة والرأي السديد والفكر النير والضمير الوقاد ...

في ذلك العام في منتصف السبيعينات من القرن الماضي التقيت بالدكتور ( ابو خالد ) لاول مرة في مقر جريدة طريق الشعب في بغداد وكنت برفقة والدي , كما التقيته في كوردستان مرات عديدة , واخر لقائي معه كان في ايلول 2017 ....

غادر الدكتور (ابو خالد ) العراق في بداية عام 1979 الى براغ ,بعد الحملة الشرسة التي قامت بها السلطة الدكتاتورية الصدامية واجهزتها الاخطبوطية القمعية لتصفية الحزب الشيوعي العراقي ,وثم انتقل إلى بيروت , ومن بيروت التحق بصفوف قوات البيشمركة التابعة للحزب الشيوعي العراقي وناضل في جبال وسهول ووديان كوردستان بسلاحه وكلماته و صوته المدوي في خنادق النضال و الحرية , واثناء فترة نضاله في كوردستان عمل في الاعلام المركزي في قرية ( بشت اشان ) , وكان من الشخصيات العربية المحبوبة بين رفيقاته ورفاقه البيشمركة . وفي اواسط الثمانينات من القرن الماضي غادر الفقيد كورستان متنقلا في عدد من المحطات منها ( سوريا ,لبنان, المانيا ) ،وفي بداية التسعينات استقر في العاصمة البريطانية لندن، حيث نال شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من كلية بيركبك بجامعة لندن في عام 1999.

 

وقف الدكتور ( ابو خالد ) مع قضية الشعوب المضطهدة , وحمل السلاح ضد النظام البعثي البائد في جبال كوردستان الشماء , لأيمانه بحق الشعوب بالحياة والحرية والعدالة والديمقراطية, التقيته في ملتقى الديمقراطية وحق التقرير المصير الذي عقد في مدينة السليمانية يومي 16ــ17\9\2017 وبمشاركة نخبة متميزة من المثقفين والباحثين والصحفيين العرب من العراق وتونس و مصر والسودان وفلسطين والاردن ولبنان و ومن المثقفين الكورد، الذين شاركوا سوية في اعمال الملتقى والمحاور الاساسية التي تمحورت حول قضايا الديمقراطية وحق تقرير المصير والهوية وقضية الاستفتاء, اضافة الى الدراسات المقدمة حول الخلفية التأريخية لتطور القضية الكوردستانية وسياقاته التأريخية وصولأ الى المستجدات الحاصلة ومواضيع تتعلق ببناء الامة والدولة الكوردستانية المستقلة، والذي جاء بمبادرة من المجلس الأعلى للإستفتاء، وكانت فرحته كبيره حيث رأى حفاوة الاستقبال والاهتمام به وكان لبحثه (الدولة - الأمة - النزعة القومية وحق تقرير المصير مفاهيم أساسية) صدى كبير على المستوى العراقي والعربي ...

وفي اول فرصة سنحت لي , سالته عن إستفتاء الإقليم وتبعاته , كان الراحل واضحا وصريحا مع نفسه ومعي حيث قال : تربيت مثلك ومثل الاف الاخرين على مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها, وبالتأكيد للكورد هذا الحق في بناء دولتهم وكيانهم اسوة بشعوب اخرى , وهذا لاجدال فيه اطلاقا , لكن وللاسف كما تعلم ان (كوردستان تنقسم جغرافيا بين أربعة دول (تركيا وسورية وإيران والعراق ), وان القيادات الكوردية وبلا استثناء لا تتجه إلى بناء المؤسسات التي تبني الأمة ـ الدولة , وان الوضع الحالي في اقليم كوردستان وخاصة في ظل برلمان معطل ومقسم وشروخات ثقافية وسياسية واجتماعية وقضايا ومشاكل جدية كثيرة أخرى ، تعاني منها كوردستان ارضا وشعبا , دليل واضح على ذالك ... 

يُعد الدكتور ( ابو خالد ) من أبرز علماء الاجتماع في العراق في العقود الأخيرة، وقد ركز بحوثه على علم اجتماع الدين، كما اهتم بدراسة التشكيلات الاجتماعية وبنى ما قبل الدولة، كالعشيرة والطائفة، ودورها في تكوين الأمم , كما اهتم بدراسة الحركات الاجتماعية الإسلامية من منظور سوسيولوجي. وقد ترك في هذا المجال عددا من البحوث والكتب النادرة ...

وكان آخر نتاجاته في عام 2017 (كتاب الدولة - اللوياثان الجديد) , و (كتاب دولة الخلافة ـ التقدم إلى الماضي ـ داعش ـ والمجتمع المحلي في العراق) والذي أثار الكثير من الجدل عن تنظيم الدولة الاسلامية ودولة خلافته المزعومة, الكتاب مكون من 8 فصول : ( الدولة الفاشلة , الخلافة والأيديولوجيا, الأيديولوجيا والرموز، مخيال المجتمع المحلي (قبل وبعد)- الصورة الذاتية وتقلّبات المخيال، البحث عن مُخَلِّص؟ , مستعمرة العقاب - الحياة اليومية في مجتمع "الخلافة"، الخلافة الريعية والمجتمع المحلِّي - المال المقدَّس والمال المدنَّس, مصائر رجال أعمال الطبقات الوسطى )

رغم رحيله , سيبقى الدكنور( فالح عبد الجبار) نجمأ ساطعأ في سماء العراق بكتاباته وافكاره وانسانيته وصدقه وتواضعه وكبريائه , وان الشخصيات العلمية والفكرية والوطنية بحجم الدكتور (ابو خالد )و حنا بطاطو وهادي العلوي والجواهري الكبير والحلاج والمتنبي وعلي الوردي وعلي جواد الطاهر وكامل شياع وغانم حمدون لايموتون , بل يبقون يعيشون بيننا بكل الكلمات التي كتبوها من اجل سعادة الانسان والانسانية وكسر سلاسل العبودية .

هاهو الان البيشمركة ( فالح عبد الجبار ) امامي بزيه الكوردي( الشروال والجوغة والبشتين ـ السروال والسترة و حزام الخصر) , هاهو الدكتور ( ابو خالد) امامي وفي عنفوان عطائه , يرفع بيده اليمنى قلمه الاحمر الذي لايتعب ولا يمل ولا ييأس وفي يده اليسرى اوراق دراستة الجديدة عن (منظومة العشائر في العراق) .!

اخيرا ... لقد عاش الدكتور (ابو خالد ) صلباً و شامخاً كالجبال التي ناضل و عاش في سفوحها، ورحل واقفا بعلمِه وتواضعه ,وعشقِه للمعرفة ،وإنسانيتِه التي لا حدودَ لها , بعد ان قال كلمته بشان الدولة المدينة وفتح نقاشا موسعا حول مجموعة من القضايا الفكرية والمشاكل التي تتعلق بمصير العراق والمنطقة ...

سيبقى (ابو خالد ) دائمًا في ذاكرة التاريخ كضمير للإنسانية ومعارض لكل شرورالعالم ..

سيبقى الدكتور (فالح عبد الجبار )عصيا على الموت والغياب بموروثه الفكري والعلمي والوطني والفلسفي . 

اخيرا, سيرقد البيشمركة والعالم الاجتماعي العراقي الكبير ( فالح عبد الجبار ) في مقبرة (High gate) إلى جوار الفيلسوف (كارل ماركس ) , الذي ترجم له بكل اخلاص ودقة من اللغة الألمانية كتابه الثمين ( راس المال ) .