خلال صيف 2017 أعادت البعض من وسائل الإعلام الكبيرة سمعية وبصرية، في فرنسا، مثل "فرانس كولتور"، والأسبوعية "لوبوان، ومجلة "الفلسفة"، الشاعر اليوناني العظيم هوميروس إلى الواجهة، مُحَرّضة القراء، وعُشّاق الأعمال الأدبية الخالدة على قراءة ،أو إعادة قراءة عمليه الشهيرين "الإلياذة"، و"الأوديسةلما يتضَمّناه من حكم ومواعظ وأفكار لا تزال صالحة لعصرنا ، وعاكسة للعديد من قضاياه السياسية والفكرية، وغيرها.

ويجدر بنا أن نشير في البداية إلى أن كتابا ش وشعراء كبارا من القرن العشرين كانوا "ورثةهوميروس بحسب النقاد والدارسينإلا أن الشاعر الأمريكي الكبير إزرا بواند يرى أنّ الإيرلندي جيمس جويس(1882-1941) هو من القلائل، إن لم يكن الوحيد الذي تمكن من أن يكون الوريث الشرعي لهوميروس وذلك بفضل عمله الذائع الصيت:”يوليسيس".لماذا؟لأنه،ودائما بحسب رأي إزرا باوند-حاول من خلال عمله المذكور أن "يمنح شكلا للعالم في كليته"تماما مثلما هو الحال بالنسبة لهوميروس في رائعتيه المذكورتين.ويجد قارئ "يوليسيسلجيمس جويس نفسه أمام عدد هائل من الأحداث، والشخصيّات والرؤى بحيث يشعر غالب الأحيان أنه يغرق فيها ولا يستطيع السيطرة عليها مثلما هو الحال في معظم الروايات الكلاسيكيّة.لكن ما هو المفتاح للولوج الى "القلعة الحصينة"التي هي "يوليسيس".على هذا السؤال يجيب الشاعر والكتاب الفرنسي فاليري لاربو (1881-1957) الذي نقل العمل المذكور الى لغة موليير قائلا بأن المفتاح هو شخصيّة "يوليسيسفي رائعة هوميروس.فاليوم الذي يمضيه ليبولد بلوم ،الشخصية الرئيسية في رواية جويس،يعكس كلّ السنوات العصيبة التي أمضاها يوليسيس في البحر مواجها المغامرة تلو الأخرى.غير أن يوليسيس المغامر الشجاع عند هوميروس يتحول في عمل جويس الى يهوديّ تخونه زوجته، ويخون هو زوجته متى استطاع الى ذلك سبيلا.وبينلوب التي تظلّ مخلصة لزوجها حتى عودته من رحلة العذاب الطويلة، تصبح عند جويس مولّي بلوم، زوجة ليويبولد التي تحلم في المونولوج بعشيقها وليس بزوجها الذي كان يهذي سكرانا في محلّ للبغاء في دبلن.

ويعتقد الفرنسي روجيه-بول ردروا أن هوميروس عكس من خلال المواضيع التي تهيمن على عمليه"الأوديسيه"، و"الإلياذةمثل الحب، والإنتقام، والرغبة، والسلطة السياسية، وعلاقة الإنسان بالدين، والحروب، وتأثر الثقافات ببعضها البعض، أهم القضايا الإنسانية التي لا تزال حاضرة، ومؤثرة إلى حدّ هذه الساعةوهو يضيف قائلا بإن هوميروس هو معاصرنا أكثر مما نحن نعتقد ونتصوّروهو يتحدث عن المعارك فيالإلياذةكما لو أنه يتحدث عن المعارك التي دارت وتدور في مدن ومناطق في الشرق ألأوسط والقتال ضار وعنيف بين المحاربينفلا أحد يرحم الآخرولا أحد يتردد في التمثيل بجسد خصمه في ساعة المعركةبل أن المحاربين يجدون متعة في قطع الرؤوس، وفي بقر البطون، وفي اقتراف أفظع الجرائم وأبشعها مثلما يفعل الإرهابيون الأصولوين في عالم اليومويرى الفرنسي الآخر جان-فانسان هولياندر ، أستاذ العلوم السياسية في جامعة"بواتيي"، ومؤلف كتاب بعنوان:» الحيلة والقوة"أنه يمكن الإستفادة من هوميروس لمواجة الإرهاب والإرهابيينفقد أظهر التدخل العسكري في كل من أفغانستان، والعراق، أن التفوق في مجال الأسلحة ليس مفيدا، بل قد يكون مضرا لذلك لا بد من اللجوء إلى الحيلة لمواجهة المجموعات الإرهابية الصغيرة ، وليس إلى القوة المُفْرطةوهذا مافعله أوليس في "الأوديسيهأكثر من مرة في مواجهة مصاعب مهلكة ويضيف هولياندر قائلا بإن الحرب ضدّ الإرهاب تحتم على القائمين بها، والمخططين لها،أن يقرؤوا أو يعيدوا قراءة هوميروس الذي ينصحنا بعدم الإفراط في القوة ل"سحق بعوضة". وهو يقترح علينا اللجوء إلى الحيل الذكية عوض الركون إلى الأسلحة المتطورةوعلى القوات الخاصة، وأجهزة المخابرات أن تكون قادرة على إبتكار واستنباط مثل هذه الحيل ويضيف هولياندر قائلابإن الإرهابين يضحّون بحياتهم بهدف قتل أزيد عدد ممكن من الضحاياأما أوليس فيلجأ إلى ذكائه ومهارته الفائقة لكي يتحدى المخاطررالقاتلة، وينتصر في النهاية على أعدائه بأقل التكاليف، وبأبخس ثمنلذا على الذين يواجهون المجموعات الإرهابية اليوم أن يقتدوا بهوميروس.

وفي عمليه "الأوديسيه"، والإلياذة"، يثير هوميروس العديد من المواضيع الأخرى المتصلة بعصرنا مثل الهجرةففي فصل من فصول الأوديسيه"، هو يتحدث عن أناس أحسنوا معاملة أوليس بعد أن نجا من الغرق، وقدموا له المساعات اللازمة لكي يتمكن من مواصلة رحلته العجيبة في أحسن الظروفكما يتحدث هوميروس عن المخدرات من خلال أناس يتناولون نبتة النسيان لكي لا يعرفوا شيئا لا عن ماضيهم، ولا عن حاضرهم، وهويتهمويمكن أن يكون تسابق عشاق بينلوب ، زوجة أوليس، لطلب يدها، شبيها بتسابق المترشحين للإنتخابات التشريعية أو الرئاسية في عالم اليوم.وترى المفكرة الفرنسية باربارا كاسين أن هوميروس يعلمنا من خلال"الأوديسة"كيف نتعامل مع الأخرويقول أوليس بأن الذي لا يكتفي بمعرفة الأرض،ويُعْرض عن معرفة البحر لا يمكن أن يدرك معنى الوجودفكما لو أنه يوحي لنا بإننا لا نستطيع أن نعترف بحضارة واحدة،ونهمل بقية الحضارات التي عرفتها البشرية في تاريخها المديد.كما يمكن أن يوحي لنا بأن الإكتفاء بلغة واحدة لا يمكن أن يساعد الإنسان على التواصل مع الآخر القريب أو البعيد.لذلك يمكن القول بإن هوميروس لا يزال ناطقا في عالم البوم بمخاوفنا، وأوجاعنا، وأحلامنا، وآمالناوهذا ما يفسر حضوره الدائم في كل مرحلة من مراحل التاريخ البشري...