يعتقد كثيرون أن المرأة اللبنانية من أكثر السيدات العربيات فَعالية في الحياة الثقافية والسياسية ومن أكثرهن انطلاقًا وحداثة، وفي ذلك التباس ولغط كبير، إذ أن المعلومات الحقيقية على أرض الواقع تَكشف عمق الأزمة التي في جوهرها أزمة الهوية والانسان في بلدٍ تتنازعه الطائفية وتكرس انقسامته المصالح الجالبة للمفاسد؛ فلبنان يحتلّ لبنان المرتبة 180 عالمياً والـ15 عربياً في نسبة مشاركة النساء في المجالس النيابية. فعدد السيدات اللواتي دخلن البرلمان منذ إقرار حق المرأة بالانتخاب والترشح عام 1953، و حتى يومنا هذا هو عشرٌ فقط ، بعضهن شاركن في أكثر من دروة !

ولكن الأسوأ هو أن تلك المشاركة "الشكلية" للمرأة لم تكتسب دلالتها إلا من خلال فعالية "الرجل السياسي" بحكم الوراثة والقربى، في بلد تغيب عنه الحقوق المدنية والفردية لصالح " التوازن الطائفي المزعوم"، ففي البرلمان الحالي المؤلف من 128 نائباً، توجد أربع سيدات فقط. كلهن وصلن بفعل عامل الوراثة السياسية التي تكرسها المحاصصة المذهبية، فالنائبة بهية الحريري هي شقيقة رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وستريدا جعجع زوجة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ونايلة تويني ابنة النائب السابق جبران تويني، وجيلبيرت زوين ابنة النائب والوزير الراحل موريس زوين.

 

أما تاريخيًّا فإن أوّل نائبة لبنانية انتُخبت بالتزكية سنة 1963هي ميرنا البستاني خلفاً لوالدها النائب إميل البستاني الذي قضى في حادثة تحطم طائرته الخاصة. وبعد قرابة ثلاثة عقود وفي عام 1991 تم تعيين نائلة معوّض في البرلمان ( حيث كانت شهدت تلك المرحلة تعيينات بدلا من انتخابات ) وذلك إثر اغتيال زوجها الرئيس رينيه معوض.

إذن نحن أمام مشهد درامتيكي لا يكون حضور المرأة فيه إلا تجليًّا لأزمة الإرث السياسي في لبنان !

واليوم، وبعد ان مدد المجلس الحالي لنفسه نصف عقد من الزمن، تسعى بعض السيدات من المستقلات والحزبيات، إلى الترشح بهدف المشاركة في الحياة التشريعية، في ظل رفض إقرار الكوتا النسائية في قانون الانتخابات الصادر عام 2017 وهو ما يعكس عجز المجلس عن اقرار ابسط الحقوق الآدمية، في وقت أقرت مبدأ "الكوتا " معظم دول العالم منذ فترات طويلة، وعملت به الدساتير من خلال اقرار مبدأ التمييز الإيجابي للمرأة عبر بدائل ثلاثة: "الكوتا الدستورية، والكوتا القانونية، والكوتا الحزبية" من قبل الأحزاب السياسية.

وكانت وزارة الداخلية والبلديات في لبنان قد أقفلت باب تقديم طلبات الترشح المزمع اجراؤها في السادس من شهر مايو المقبل، حيث بلغ أن عدد الذين تقدّموا بطلبات ترشّحهم بلغ 976 مرشحاً بينهم 111 سيدة، أي بنسبة 11.3% تقريباً من مجموع المرشحين،وهو رقم يبدو ضيئلا إذا عرفنا أ نسبة المنتخبات الاناث تفوق 50 % .

 

وأمام كل تلك المعطيات، فالسيدات اليوم أمام استحقاق فعلي وسط جدلية السؤال المحير : لماذا لا تنتخب المرأة السيدات المرشحات بالبرلمان في ظل وجود حقيقة أن نصف الناخبين اناثا لا يقمن بانتخاب من يمثلهن، ومن مسؤول عن هذا الفشل التراجيدي؟

فالمرأة "نظريا" على الاقل مسؤولة عن خسارتها في الانتخابات، فلو انتصرت لنفسها وقامت باختيار السيدات، لشهدنا فوزا كاسحا للعنصر النسائي في معظم دول العالم، ولتغيرت التركيبة المعتادة للمجالس النيابية، ولبتنا نشهد أداء مختلفا.

غير أن الواقع يؤكد ان لبنان بلد "الحريات" الشكلية لا الحقيقية وهو بلد تغيب عنه الديموقراطية الفعلية لصالح "توافق إقطاعي سياسي طائفي " وتتحكم في مفاصله كلها عنصرية مقيتة، بلد لا تزال قوانينه تسمح بزواج القاصرات وتغيب عنه المحاكم المدنية حيث تتحكم بمصائر الناس المحاكم المذهبية، مع كل ما يسببه ذلك من مشاكل عميقة في الأحوال الشخصية للمواطنين، المفترض ان يحكمهم قانون موحد يسري عليهم جميعًا ، كما تُحرم فيه المرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي من منح جنسيتها لأطفالها وفي ذلك حيف كبير .

أضف إلى ذلك أن حتى " المرأة " التي تصل الى البرلمان عبر تركيبة أحزاب "ذكورية " في بنيتها ومعتقدها فإن أداءها بمعظم الاحيان يصب في خانة المنتج الفكري لسياسة هذا الحزب ولا يمكن لها ان تخرج من عباءة زعيمه بحال من الأحوال ، وتكون في هذه الحالة أشبه بديكور أنثوي غير فاعل !

فهل ستصوت "نائبة عن حزب الله " في حال وصولها الى البرلمان مثلا، مع قانون عدم تزويج القاصرات واقرار قانون المحاكم المدنية ؟! والجواب بالطبع لا، كون العقيدة الفكرية والدينية تتنافى مع هذا القانون إضافة إلى انها ستلتزم حرفيا بما تمليه عليه السياسة العامة للحزب والقوانين التي تخدم مصاله ومصالح "مذهبه "

 وهل ستصوت " نائبة عن الاقليات او بعض الاحزاب المسيحية" على قانون حق الأم بمنح جنسيتها لأبناءها ؟! وعلى الأغلب الجواب لا ، خشية أن يؤدي ذلك إلى تجنيس عدد من "الفلسطيين" الذين بمعظمهم "مسلمين" الأمر الذي يؤدي إلى خلل في "التركيبة الطائفية " .

إذن فالمرأة في البرلمان لن تضع في أولى أولياتها "حقوق المرأة "بل ستكون للخيارات السياسية والطائفية الأولوية المطلقة !

أما من الناحية الفكرية، فلنفهم ظاهرة تدهور أحوال المرأة بشكل عام لا بد من من مقاربة ذلك من خلال الوضع العام للمجتمع بأسره فإن عدم انتخاب المرأة للمرأة قد يعكس بشكل مبدئي عدم الثقة لجهة كونها صانعة قرار، فبنية النظام الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والقيمي والثقافي والوضع الاقتصادي والمستوى المعيشي، كلها عوامل تفسر هذه الظاهرة، غير أنّه من الملاحظ هو أن معظم هذه الدراسات والأبحاث لم تضع موضع السؤال علاقة "ظاهرة ثقة المرأة بقيادة المرأة " بتشكيل الهوية عند الكائن الإنساني.

 والسؤال الجوهري يكمن في " كيف تنظر المرأة الى هويتها؟ " فالمرأة لا زالت تنظر الى نفسها دوما على انها ينبغي ان تكون في الصفوف الخلفية ؛ فكيف لنا ان نطلب منها ان تنتخب امرأة اخرى لموقع قيادي بارز وهي تعامل نفسها على انها أدنى من الرجل وتربي ابناءها على ذلك؟

 ولهذا الوضع "الدوني " اسباب كثيرة وعميقة نذكر منها على عجالة:

 مفهوم الهوية وكيفية تشكّله عند المرأة كون العلاقة وثيقة بين القيادة وصنع القرار وتشكّل الهوية عند الانسان، وفي معظم المجتمعات الشرقي منها والغربي مع تفاوت النسبة والظروف تكرس السلطة الذكورية، اما مجتمعاتنا فتقوم على "فكرة القوامة للرجل " وسيطرته على من يُصنَّف أنه أضعف من فئات المجتمع الأخرى، فالرجال هم من يتحكمون في وسائل الإنتاج المادي والمعنوي، و هم من يحتكرعادة وسائل القيادة الرمزية والمعنوية.

 من الناحية فكرية وثقافية عبر عصور متعاقبة طويلة تم تكريس مبدأ الفصل في الفكر انعكس على مستوى الممارسات ايضا، فكثيرا ما تطرح مواضيع انسانية عامة على انها اختصاص "نسائيا " بحتا او العكس. فمبدأ الفصل بين البشر، يؤدي الى انشطار وانفصام الكائن المسمى انسانًا،مع تكريس الثقافة القائمة على الاستهلاك والتبعية في مجتمع ذكوري، وتصويرالسيدات في وسائل الاعلام على انها كائن لتحقيق المتعة فقط.

 الأنماط التربوية المُتَّبعة تُكرِّس فوقية الرجل، وتعمل على إنتاج شروط انتاج مجتمعات ذكورية من جديد وهو ما يتحكَّم في اللاشعور الجمعي للمجتمعات البشرية ويُحرِّك دواليب الفعل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.... على حدٍّ سواء، إنه جزء لا يتجزأ من المخزون الثقافي والإيديولوجي وعصارة إرث تاريخي ضخم حافل بشتى أنواع الاضطهاد.

 إذن فالبنى المنتجة "لعدم الثقة بجدارة المرأة " متجذرّة في الأسس البنيوية للأيديولوجيّات المتداولة في عالمنا بما فيها الأديان، ومتأصلّة في البنيات الذهنيّة، والخلفيّات الفكريَّة للأفراد، وتُعدّ المركَّب الأساس في بنية المؤسسات الاجتماعية بما فيها الأسرة، التي ترعاه وتحتضنه.

 غير أنَّ كلّ ذلك لا يعني بحال من الأحوال، أنه حالة ثابتة وظاهرة مطلقة وقدرٌ مبرم، غير خاضع لتغيّر الظروف التاريخية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات البشرية، وإنما المؤكد هو أن حدَّته تتفاوت حسب المرحلة التي قطعها كل مجتمع بشري في طريقه نحو إحداث القطيعة مع الممارسات "الفوقية"،وان اردنا ان نغير ذلك لا بد وان نبدأ بالتغيير في الشروط المنتجة للمشكلة بدءا من المناهج التربوية مرورا بمراجعة قراءاتنا الحضارية لكافة الاشكال الثقافية والاعلامية التي تكرس دونية المرأة ، لتحقيق التقدم والمساواة والرفاهية لكل نساء المجتمع ورجاله وأطفاله، وكذا لكل فئاته العمرية.