كما كان متوقعاً، وجهت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ضربة صاروخية / جوية إلى المنشآت الكيماوية في سوريا، واندفعت وسائل الإعلام جميعها في تحليل أبعاد الضربة ونتائجها وتداعياتها المحتملة ورد فعل مختلف الأطراف حيالها.

وفي هذا الإطار هناك استنتاجات عدة مهمة من هذه الضربة أولها أن الصراع بين القوى الكبرى يدور بالأساس في ساحات الإعلام وليس في ساحات السياسة والقتال، فهناك اهتمام شديد من جانب قادة الدول الكبرى بكسب معركة الإعلام قبل معارك الصواريخ والبوارج والمقاتلات، سواء عبر "تغريدات" الرئيس الأمريكي ترامب، التي أصبحت أحد محركات السياسة الدولية، أو عبر التصريحات التقليدية لقادة ورؤساء الدول ومسؤوليها السياسيين والعسكريين، وهذا يعني الاهتمام بكسب مواقف الرأي العام المحلي والعالمي بغض النظر عن التحركات الميدانية ونتائجها. وثاني هذه الاستنتاجات أن الثوابت التي تحكم العلاقات الأمريكية الروسية لا تزال قائمة وليس صحيحاً أن هناك نية لخوض حروب عالمية وغير ذلك من تحليلات تفيض بها وسائل الاعلام، فوزير الدفاع الأمريكي ماتيس كان لاعباً أساسياً في تحديد توقتي الضربة وأهدافها بعد التيقن تماماً من اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان عدم تصعيد الأزمة أو نشوب مواجهات بين القوات الامريكية والروسية في سوريا، لذا فإنه تم إبلاغ روسيا بقائمة الأهداف والمواقع من دون إبلاغها بتوقيت الضربة، ولم تتضمن هذه الأهداف بطبيعة الحال أي خطر على القوات الروسية في سوريا، واغلب الظن أن روسيا قد سربت المعلومات إلى النظام السوري الذي ترك المنشآت خاوية، وهذا الأمر لا يعني الدول الثلاثة التي وجهت الضربة في شيء لأن ما يهمها بالدرجة الأولى كان توجيه الضربة، والقضاء على أي قدرات لانتاج أسلحة كيماوية لدى النظام السوري.

ثالثاً أن هذه الضربة تمثل إعلاناً صريحاً بفشل مجلس الأمن الدولي في حل الأزمات، حيث عجز المجلس عن اتخاذ أي قرار للتعاطي مع الأزمة، وتحول إلى ساحة تراشق بالاتهامات بين ممثلي الدول الكبرى!

رابعها أن الضربة المحدودة كانت تمثل الصيغة التي تم التوصل إليها أمريكياً "للقيام بأي شيء"، كما قالت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، والتي طالبت بعد التسرع في اتخاذ القرارات، على خلاف ما كان يعلن الرئيس ترامب الذي بادر كعادته بالإعلان عن توجيه الصواريخ "الجميلة" ولكنه عاد واستخدم خطاباً غامضاً! رابعاً ان الضربة رغم محدوديتها فإنها تمثل إحراجاً بالغاً للرئيس الروسي، وليس من قبيل المبالغة أن يقول المندوب الروسي في الأمم المتحدة أن الضربة تمثل إهانة للرئيس بوتين! فالرسالة التي حملتها الضربة لم تكن عسكرية فقط بل كانت سياسية أيضاً وتتعلق بأن مستقبل سوريا ليس شأنا روسياً ـ تركياً ـ إيرانياً فقط بل إن للولايات المتحدة الكلمة الأولى فيه بغض النظر عن توازنات القوى على الأرض، وهذا الأمر لن تقبل به روسيا التي استثمرت كثيراً في سوريا، وباتت على مقربة من حصد ثمار هذه الاستثمارات!

الإشكالية في هذا الأزمة أن روسيا تستشعر الإهانة من جانب الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وتعتبر مشاركة بريطانيا بهذه الكثافة والإصرار بمنزلة تحد لروسيا في ظل أمة الجاسوس البريطاني التي لا تزال مشتعلة بين الجانبين.

ماهي إذا خيارات روسيا في ضوء هذه المعطيات؟ الأرجح أن روسيا ستمتنع عن أي رد مباشر وستواصل إنجاز مهمتها في سوريا، ولكن مع الأخذ بالاعتبار مواقف الأطراف ذات الصلة، فقد اكتشفت روسيا أن تركيا ليست شريكاً يعتمد عليه في التعامل مع الغرب، حيث انحازت أنقرة للموقف الأمريكي ورحبت بالضربة بشكل مغاير للشواهد والارهاصات التي سبقت الضربة!

وبالتالي فإن كل حديث عن تحالف روسي تركي إيراني هو بمنزلة وهم كبير، فتركيا تائهة تعاني ارتباكاً استراتيجياً غير مسبوق، وتريد اللعب على كل الحبال وابتزاز كل الأطراف واستخدامهم لتحقيق مصالحها!