يُعد لبنان الساحة الأكثر حيوية للتفاعلات الإقليمية ومرآة واضحة لانعكاس صراعاتها، لذلك فإن نتائج الانتخابات اللبنانية ستكشف عن تداعيات محتملة لمكانة الدولة اللبنانية في الساحة الدولية، لا سيما عقب انهيار الاتفاق النووي وانسحاب الولايات المتحدة منه، حيث فقدت إيران آخر حافز يمنع حلفائها من الميليشيات الشيعية المسلحة في سوريا ولبنان والعراق واليمن في توسيع أنشطتهم العدائية وربما يدخل المنطقة في مواجهة مباشرة ، حيث يتوقع المراقبون أن تضغط إيران على "حزب الله" لعزل خصومه السياسيين في تطور قد يزعزع استقرار لبنان، لاسيما بعد أن حصدت القوى الداعمة للحزب المذكور ما يزيد قليلا عن نصف مقاعد البرلمان في جميع الدوائر الانتخابية. 

إذن فالمهمة الأكثر تعقيدًا والملقاة على سعد الحريري بوصفه المرشح الأوفر حظا لتشكيل الحكومة المقبلة هو احترام التزامات لبنان الدولية، بما في ذلك تلك الواردة في قراري مجلس الأمن 1559 و1701، بالاضافة الى سياسة النأي بالنفس عن الصراعات الخارجية، وهو ما لم تستطع الحكومة اللبنانية خلال الأعوام السبعة الماضية من تحقيقه عندما كانت القوى السياسية اللبنانية المناهضة "حزب الله" في ذروة قوتها ونشاطها فكيف سيكون حال "النأي بالنفس " بعد أن تحكم "حزب الله" بكافة مفاصل السياسة اللبنانية ؟

هذا الحزب وعبر أمينه العام يُصرح بوضوح أنه يريد من الحكومة المقبلة ان تكون الستارة الديبلوماسية المنمقة التي تجملّ أنشطته العسكرية وتنامي أذرعه الارهابية تحت شعارات "المقاومة والممانعة" !

 إن البنية السياسية الطائفية في لبنان واستقواء معظم "الشيعة" بالسلاح إلى جانب النسيج الهش لمؤسسات الدولة العاجزة عن بسط سلطتها بعدالة واقرار النظام بالتساوي بين كل الفرقاء، أدى الى تغول الفساد داخل المؤسسات الرسمية الموزعة بحسب الميزان المذهبي والتوازنات بين الطوائف، كل ذلك منح إيران رافعة تأثير فريدة من نوعها عبر "حزب الله" في الدولة اللبنانية، كما استنسخت تلك التجربة في العراق واليمن وغيرها من الدول العربية . 

وقد بدا ذلك واضحا عقب الاعلان عن نتائج الانتخابات اللبنانية ؛ فما ان انتهت مسرحية الاقتراع حتى غزت جحافل الدراجات النارية السيارة التابعة لأنصار "حزب الله" و "حركة أمل" العاصمة بيروت في استفزاز متكرر وتهويل يُهدد الشعب اللبناني وينذر بالفوضى في سائر لبنان وأعادت إلى الذاكرة أحداث السابع من مايو أيار 2008 حين اجتاحت ميليشيا "القمصان السود " العاصمة وأدى ذلك إلى موت الأبرياء في حين وصف امين عام الحزب ذاك النهار ب"اليوم المجيد" ليُطوى فيما بعد ذلك الملف بتوافقات بين السياسيين دون ان يُحاسب أحد، وليتكرر بعد عشرة أعوام وفي السابع من أيار 2018 المشهد المؤسف في اشارة رمزية واضحة لما ستؤول إليه الأمور . 

عشرة أعوام لم يستطع لبنان ان يحدّ فيها من انفلات السلاح الميليشيوي ولا أن ينآى بنفسه عن الحروب في الدول المجاورة ، وبدت فيه القوى السياسية اللبنانية عاجزة عن التوصل الى ارضية مشتركة تمثل الحد الأدنى والخطوط العريضة من الهوية اللبنانية المشتركة، في وقت يُعلن فيه "حزب الله" نفسه ومن يدور في فلكه منتصرًا بل ونصب نفسه "سيدا" على كل لبنان، عبر خطابات تُصرح جهارًا و دون مواربة أن من يملك قوة السلاح قادر على فرض شروطه الداخلية في وقتٍ يفتخر بعقيدة عنصرية مذهبية متطرفة ويعلن صراحة انتمائه وتبعيته لإيران ودولة الولي الفقيه و يعمل على تصدير الإرهاب كما المخدرات . 

أما على الصعيد الخدماتي الداخلي فإن الانتخابات كشفت ايضا عن فئة كبيرة من الشباب الرافض للطائفية بكل أشكالها وصورها، بعد ان ضاقت ذرعًا بالعنف والتقسيم المفتعل بين الاطراف السياسية المعهودة ، وهؤلاء الشباب يتطلعون بصدق الى عقد اجتماعي جديد مدني، مبني على المساواة في المواطَنة.

 لكن في الوقت عينه يجب أن نعترف بأن خوف الناس و الحاجة النفسية إلى الأمان دفعتهم للتصويت للقوى الطائفية والتماهي مع الفئة القومية أو الطائفية أو الحزبية أو المذهبية التي اتفق لهم أن يكونوا ضمنها ، فأغلبية الشعب اللبناني الآن بكل توجهاته يظن أن لا وجود له مستقلاً خارج هذا الانتماء المذهبي ، ولا يستطيع أن يقف على قدميه دون الاتكاء على التبعية لتلك الفئة أوالاعتماد على مرجعية الشخص أو الأشخاص الذين يجسدون بنظره "عقيدته" المثلى.

فالخوف من سيطرة "حزب الله الشيعي" أدى بأتباع بقية المذاهب والطوائف الى التفاف على بشكل اكبر حول "زعمائهم" ، في صورة تنذر بكارثة حقيقية كون هذا التماهي يكرس فكرة "القطيع" التي تغذيه المرجعيات وتتلاعب به في آن معا لتستمر في لعبة السلطة والسيطرة ، وبالتالي فإن مفهوم المواطنة والحالة تلك يبدو غائبا بالكامل . 

وبين مطرقة التبعيات الخارجية و سندان تدهور الخدمات الداخلية يرزح الانسان اللبناني، كمن يركب في قاربًا مهترئٍا في عباب بحرٍ هائج ، فالنار التي يزرعها السلاح لا تورث إلا رماد الحروب .