فريقان خاضا معركة مصيرية لإبقاء أميركا في الاتفاق النووي بحماسة متقدة قد تتجاوز في بعض الأوقات حماسة الإيرانيين أنفسهم. الفريق الأوروبي والفريق الأميركي وغالبيتهم من الديمقراطيين وخصوصاً جناح الرئيس السابق باراك أوباما عراب الاتفاق. وعلى الرغم من تشابه بعض الأهداف بين الفريقين إلا أن لهم أيضاً دوافع مختلفة ومتمايزة.

على المستوى الأوروبي، أنهكت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي الرئيس ترمب بالاتصالات في محاولة لتغيير موقفه . 12 اتصالاً في فترة قصيرة أعقبته بإرسال وزير خارجيتها بوريس جونسون إلى البيت الأبيض. ولأول مرة نلاحظ أنها أطلقت صغار الدبلوماسيين في منطقة الشرق الأوسط للدفاع عن الاتفاق لجمهور في غالبيته رافض له ما تسبب لهم بالحرج. المستشارة الألمانية ميركل حجت لواشنطن وجلست مع ترمب لوقت طويل لإقناعه بالعدول عن الانسحاب.

لكن الرحلة الرومانسية التي انحفرت بالذاكرة ولم تُكتب لها نهاية سعيدة كانت للرئيس الفرنسي ماكرون الذي يجوز وصفه بالمنظر الجديد للاتفاق بعد غياب أوباما. عندما زار ترمب في واشنطن ردد حججه المعروفة واستخدم العناق والقبلات وشبك الأيدي من أجل التأثير على شخصية الرئيس الأميركي الانطباعية. ولكن كل المحاولات الأوروبية ذهبت سدى وقرر ترمب الخروج من الاتفاق معلناً في خطابه أن الاتفاق بمجمله قائم على أكاذيب.

ورغم حديث مستشاره للأمن القومي جون بولتون أن ترمب قرر الانسحاب في اللحظة الأخيرة إلا أنه لا يمكننا تصديق مثل هذا الادعاء. ومع ورود مزيد من التقارير الإخبارية، فإننا بتنا نعرف أن ترمب قرر الانسحاب بعدما أعاد ترتيب فريقه وأبعد منه الحمائم الوجلة خصوصا وزير خارجيته السابق ريكس تيلرسون الذي أقنع ترمب بالتمهل لمرتين عن تمزيق الاتفاق. ويقول الأوربيون الآن إن المفاوضين الأميركيين في الفترة الأخيرة كانوا يعملون بارتخاء وبلا إيمان قوي بالقضية وهم يدركون أن رئيسهم قرر مسبقاً الخروج.

ولكن إذا كان الرئيس الأميركي قد قرر الانسحاب لماذا ترك القادة الأوربيين يتوسلون له ويقرعون باب بيته كل ساعة؟ أقرب تفسير أنه رآها فرصة كبيرة لإظهار القوة الأميركية التي يريد الرئيس الأميركي أن يجسدها في ذاته وإدارته على العكس من الإدارة السابقة التي يتهمها بشكل مستمر بالضعف المذل. ولكن هذه ليست المرة الأولى التي يفعلها مع الأوروبيين حيث تراجع عن اتفاقية باريس للمناخ وهدد بفرض ضرائب على المنتجات الأوروبية وتوعد الألمان مرة بوضع تعريفات جمركية تصل إلى 35% على سياراتهم. ولكن اتفاقية النووي الإيراني أشد إذلالاً، ما جعل أحد كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي يعلق بغضب: "يجب أن نتوقف عن التصرف كمائعين"، ويوم أمس رددت ميركل بنبرة جديدة أن "أميركا لن تحمينا.. علينا الاعتماد على أنفسنا!"

دوافع هذه الحماسة الأوروبية تختلط فيها النظريات السياسية المجردة وجوائز الاقتصاد الكبيرة. جدالهم السياسي لم يختلف عن جدل الإدارة الأميركية السابقة رغم التحولات الكبيرة على الأرض. الفكرة الأساسية تبدو مصيبة ومثالية وهي أن الاتفاق سيسهم بدمج النظام الإيراني في النظام العالمي ويعزز التيار الإصلاحي وبالتالي ينزع فتيل الأزمات وينشر السلم. ولكن ما شاهدناه هو على العكس تماماً، ويعرف الجميع تقريباً أن الأموال الأميركية التي جلبت بالصناديق والاستثمارات الأوروبية شجعت من سلوك النظام الإيراني الخطير على نشر الفوضى وتدمير السلام الإقليمي في المنطقة. تاريخ الأوربيين لا يقف بصفهم. فقد قرروا مواجهة الخطر النازي بقوة ولم يفكروا بعقد أي صفقات سلام حتى تلك التي احتفل بها تشامبرلين. وعندما طار المضطرب نائب هتلر ردولف هس لبريطانيا بحثاً عن السلام قذف في زنزانة انفرادية، وناضلوا طويلاً لمواجهة آلة ستالين الحديدية. وتتحد القوى الغربية بعزيمة صقورية لمواجهة نفوذ الرئيس الروسي بوتين.

السبب الآخر هو الجانب الاقتصادي الذي تسعى أوروبا للمحافظة عليه مع إيران وقد أعلنت تلك الدول ذلك بتصريحات واضحة أنها ستعمل على المحافظة على مصالح شركاتها. اندفعت الشركات الأوروبية للاستثمار في إيران بعد توقيع الاتفاق حيث يبلغ التبادل التجاري الإيراني الألماني 4 مليارات دولار سنوياً وأرسلت شركة رينو الفرنسية في العام الماضي فقط أكثر من 60 ألف سيارة وتعد شركة توتال الفرنسية المستثمر الأكبر في النفط والغاز الإيراني (اقرأ تقريراً موسعاً للزميلة حنان المنوري في "العربية نت" عن المليارات الأوروبية التي أصبحت في مهب الريح). ولكن ردود أوروبا الغاضبة تخفي خلفها خوفاً مبرراً لأن استمرار التجارة مع إيران يمثل مخاطرة كبيرة على تجارتها مع الولايات المتحدة الأميركية. وقد قامت وزارة الخزانة الأميركية حتى قبل انسحاب ترمب من الاتفاق بإحباط عمليات مصارف أوروبية تموّل مشاريع وصفقات كثيرة داخل إيران لمعارضتها شروط الاتفاق في حينه.

أما الفريق الأميركي المعارض فقد بذل جهوداً كبيرة للمحافظة على إرث الرئيس أوباما الوحيد في السياسة الخارجية الذي تناثر لحطام. وكان هذا أحد أهم الأسباب خلف حماستهم، وقد استخدموا كل وسائل التخويف والهجوم الإعلامي من أجل ردع ترمب من اتخاذ قراره. وبعد الانسحاب شاهدنا تعليقات غاضبة ومريرة ومن المثير أنها تتشابه إلى حد كبير مع تعليقات مسؤولين في النظام الإيراني. حيث ردد علي لاريجاني رئيس البرلمان الإيراني ذات الاتهامات التي يرددونها وهي أن ترمب لا يملك القدرة العقلية للإدارة والحكم. وهذه التهمة تقع في قلب دعاية المعسكر اليساري الأميركي. وبعد الخروج من الاتفاق تناقلوا ردوداً غاضبة وناقمة من بينها كانت تغريدة كتبها الرئيس السابق لوكالات الاستخبارات جون برينان قال فيها: "ترمب كذب فيما يتعلق بالاتفاق النووي، أضعف الثقة دولياً بالتزام أميركا، أبعد أقرب حلفائنا، قوى الجناح المتشدد، أعطى كوريا الشمالية أكثر من سبب للمحافظة على رؤوسها النووية. هذا الجنون خطر على أمننا القومي." برينان شخصية موتورة هوجاء وتفتقد أي حس للحكمة، تعكس تصريحاته الغضب العارم من إدارة ترمب وقرارها الذي يعد تاريخياً إلا لدى هذين الفريقين وبالطبع الملالي في طهران.