لستُ شامتاً بمّن خسر في الجولة الانتخابيّة، من دون استثناء حتى السيدة حنان الفتلاوي، فالشماتة في كلّ الأحوال ليست سياسة، مثلما هي ليست تجسيداً لاحترام الرأي الآخر، حتى وإن جاء عبر بوقٍ نافرٍ يستفزّ المشاعر ويؤذي السمع. وهذا لا يجب تفسيره باعتباره تزكية للفساد أو إعادة اعتبارٍ لرموز الضغينة والتحريض على إشاعة الكراهية والفتن الطائفيّة وإزاحة الأمل، وهو لا يعني أيضاً اعتبار ممارسة الفساد ورذيلة نهب المال العام "وجهة نظر".

وجهة النظر التي لها دلالاتها العميقة في الحياة السياسية القائمة وفي الموقف من الانتخابات بتبني المقاطعة، هي التي تدخل في خانة الاختلاف في الرأي، وهي في جوهرها محاولة من موقع آخر في رفض الرثاثة وتحدّيا للنظام السياسي المبني على ركائز الفساد والمحاصصة الطائفية وتهميش الآخر، وتحويله إلى مشروع اغتصابٍ للسلطة، وتمكين الطبقة السياسية المهيمنة من أن تكون قوة مصادرة لإرادة الناس واختطافها بأكثر الأساليب فساداًعبر توظيف المقدّس وتشويهه، ويقال في مثل ما يُراد هنا إضاءته، إنّ الجمال يمكن أن ينبعث من تحت ركام الخرائب ومستنقع الفضلات.

قد يبالغ البعض فيرى في نتائج الانتخابات بشيراً بالخلاص، مثلما سيظلّ البعض الآخر يعتقد أنها ستكون فصلاً جديداً يعيد تدوير الخراب والفساد. وبين الاعتقادين تتزاحم في صدارة المشهد نماذج، وإن تكن على عددأصابع اليد الواحدة، وربما أقل وأتمنى أن تكون أكثر تشكل "إحياءً" لزمنٍ كان يزخر بمثل هذه النماذج ويتكاثر حتى يملأ الأفق بالأمل والمرتجى، تنبعث منها بشائر وتداعياتٌ وأحلامٌ ترتسم فيها مشاهد جنّةٍ في الأرض.

لن أكتب بانحياز عاطفي ولا بتجرّدٍ موضوعي، بل يحدوني الأمل أن أكتشف وأتفاعل مع ناسٍ ينتمون إلى كل زوايا العراق، من بين كل مكوناته، مؤمنين وشرفاء غير مخادعين بادّعاء الإيمان، وهم يتحولون إلى نماذج في الفضيلة الوطنية والمصداقية والإحساس بالمسؤولية إزاء مصالح الناس المشغولين بالبحث عن لقمة العيش والكرامة وارتياد مستقبلٍ آمنٍ معافى.

كتبتُ بالأمس عن رجلٍ من خارج اللوحة السياسية لا أعرفه شخصياً، وأكتب اليوم عن هيفاء الأمين من الناصرية وسهاد الخطيب من النجف، وكلتاهما جعلتاني أستعيد بعضاً من حيواتٍ غابت في خضمّ تحدياتٍ وتضحياتٍ فيمواجهة العذاب والموت، وهما تتعاليان على جراحاتهما وذواتهما، ولا تنتظران شفاعة أو جزاءً، وتغذّان السير بين الناس تبشّران بالخير والمرتجى المؤجّل.

لا أعرف عن قرب سهاد الخطيب، لكنها أصبحت وهي تنتقل بين جمهورٍ يُفترض فيه أنه مثل مدينته المقدسة محافظٌ، يحرجه مشهد المرأة وهي تريد أن تكون له رسولاً إلى حيث يتقرر فيه مستقبل أولاده وأحفاده. هل هذه الابنة التي تعيش بجوار الإمام كان هو لها مثلاً في الدفاع عن العدالة وتمكين الفقير والمستضعف والمساواة بين البشر؟

إنها لم تفز في التصويت، لكنها انتصرت على القيم الرثة التي لا تجد في المرأة شكيمة الفوز بمكانة تؤهلها على فتحباب الفرج لمن تدافع عن حقوقهم، وتؤشر للسبل الكفيلة باجتياز العبوات والكمائن والضغائن والتمييز، وأسرتْ بذلك قلوب آلافٍ حرمهم قانون الانتخاب من أن تشغل ممثلتهم موقعها في البرلمان.

هيفاء الأمين شاهدتها مرة من بعيد، وتعرفت عليها عبر برنامجٍ تلفزيوني اليوم، مع أنه مسجّلٌ قبل أيام من التصويت، وهي تقدم رؤيتها وحزبها لما ينبغي أن يكون عليه النائب وما يجب أن يجسده البرلمان من القيم والمبادئ والتطلعات وما ينطوي عليه من النزاهة ونظافة اليد والضمير.

لم تكن هذه تجربتها الأولى، ولم تظهر فيها سويّتهاوجرأتها وقوة تعبيرها عما تؤمن به.

في الانتخابات السابقة خاضت معركتها دفاعاً عن حقها في أن تعيش كينونتها الإنسانية " وتحجب " على الدونية الذكورية، إذ تريد منها أن تحتجب في البيت، تُنجب وتكنس وتطبخ. وأتذكر من مشهد تلك الأيام استنفار مدينة الناصرية موئل ومرفأ الباحثين عن ربيع العراق لتدخل آمنة إلى مدينتها، كما هي وكما تُريد أن تكون عليه.

الامين والخطيب لم تعتمدا الخطاب المنمق، ولا الاعلاناتالطرقية الباذخة، بل اكتفيتا بقول الحقيقة وحدها، والوعدبصياغتها وتبنيها والدفاع عنها.

أنا لا أشمت بفشل السيدة حنان الفتلاوي، بل أُريد لها أنتسمع صوتاً آخر لا غير.