منذ عام 2003، أي سنة سقوط النظام الصدامي، إثر الغزو الأمريكي للعراق، وهذا الأخير يتخبط ويبحث عن بصيص أمل لكي يكون بلداً طبيعياً كباقي البلدان، لكن سلطة الاحتلال ارتأت عكس ذلك وأغرقت البلد في بحر من الأزمات والكوارث ليس اقلها توفير التربة والأرضية الخصبة لمجيء تنظيم القاعدة الإرهابي بزعامة المجرم السادي المقبور أبو مصعب الزرقاوي الذي وضع البلد على حافة حرب أهلية طائفية مدمرة بين 2004 و2009، ومن ثم اختلاق داعش الإرهابية واحتلالها لثلث أراضي العراق واعلانها لدولة الخلافة المزعومة سنة 2014، ومن ثم محاربتها خلال أكثر من ثلاث سنوات مع ما ترتب على ذلك من تضحيات ومآسي وخسائر في الأرواح والأموال وضياع الوقت، ولم تنته المشكلة بعد. إلى جانب فرض نظام المحاصصة الطائفية والعرقية والقومية، وتهيئة الظروف لانتشار وتغلغل الفساد في كل خلايا الجسد العراقي المنهار والمريض. كل ذلك تحت غطاء مظهر فضفاض من الديموقراطية المزيفة التي اختزلت بممارسة الاقتراح الانتخابي كل أربع سنوات ظاهرياً، وممارسة التزويرالسري والعلني، لفرض النتائج المطلوبة سلفاً بغض النظر عن نتائج الاقتراع الشكلي أو نسبة المقترعين مهما كانت مرتفعة أو متدنية، وهذه حقيقة لايتجرأ أحد على دحضها أو الاعتراض عليها. لقد وضعت الطبقة السياسة الحاكمة للعراق هذا البلد على منحدر الانهيار والتحول إلى دولة فاشلة. فالسرقات والنهب بلا حدود وبمئات المليارات من الدولارات، والأمن متدهور والشارع العراقي بيد الميليشيات والقوى المسلحة من كافة الانتماءات والاتجاهات. والخدمات شبه معدومة، لا كهرباء في حر الصيف اللاهب، ولا ماء صالح للشرب، ولا زراعة ولا صناعة، والاعتماد على الاقتصاد الريعي ومداخيل النفط، أي تحت رحمة ارتفاع وانخفاض أسعار البترول في السوق العالمية، والأزمات المجتمعية متفاقمة والفقر يزداد يوماً بعد يوم في أغنى بلد في العالم. لقد حولت الطغمة الحاكمة أرض الرافدين إلى ساحة للصراعات الإقليمية والدولية وتوغل كل دوائر المخابرات العالمية والإقليمية في الداخل العراقي وتحكمها بمصير البلد وشعبه. لقد بات واضحاً أن الدول المجاورة لاتريد للعراق الاستقرار وهي تحارب بعضها البعض بالوكالة على أرض العراق كالصراع الدائر بين أميركا وإيران، بعد أن تغلغلت هذه الأخيرة في كافة مفاصل الدولة العراقية ومؤسساتها، العسكرية منها والمدنية، وصارت تتحكم بكل صغيرة وكبيرة فيه وتفرض أتباعها حكاماً على العراق شاء من شاء وأبى من أبى. عاش الشعب العراقي طيلة خمسة عشر عاماً على في جحيم وقع التفجيرات الإرهابية والاغتيالات وعمليات الخطف والتهجير والقتل على الهوية، وكلما حدثت أزمة سياسية بين المتقاسمين للسلطة والنفوذ، بسبب خلل ما في عملية توزيع المغانم، تعود التفجيرات الإرهابية وإرسال رسائل العنف فيما بينها والضحية دائماً هو الشعب. لقد ماتت الوطنية والإنتماء الوطني عند أبناء الشعب العراقي وحلت محلها الانتماءات الطائفية والمذهبية والدينية والقومية والجهوية والعشائرية، إلى درجت تغولت فيها سلطة العشائر وهيمنتها على المجتمع المدني وتدخلها في كل مناحي الحياة اليومية، على حساب سلطة الحكومة وهيبتها، ناهيك عن سلطة العناصر والقوى والميليشيات المسلحة من جميع الألوان والتوجهات، التي تحدت ومازالت تتحدى سلطة الدولة الشرعية وتضع نفسها فوق القانون. هذه هي اللوحة المآساوية التي يعكسها عراق اليوم للعالم الخارجي والخلفية التي دارت فوقها الانتخابات الأخيرة في 12 آيار 2018. ولم يبق أمام العراق الآن سوى أن يعيد تكرار الطبخة السياسية القائمة منذ خمسة عشر عاماً بعناوين أخرى فتارة تحت مسمى "التوافق الوطني" وأخرى "حكومة المشاركة الوطنية الواسعة"، أو "الحكومة الأبوية" أو "حكومة الفضاء الوطني"، وهي تسميات تعني شيء واحد لا غير ألا وهو " نظام المحاصصة" والبديل هو الحرب الأهلية : الشيعية - الشيعية، و الشيعية – السنية، و العربية – الكوردية الخ.. وكل جهة في العراق يقف وراءها دولة إقليمية تمولها وتحركها، كإيران وتركيا والسعودية وقطر والإمارات العربية والأردن والكويت. ولكل واحدة من هذه الدول أجندتها ومصالحها الحيوية والأمنية والاقتصادية والاستراتيجية التي تتقاطع حتماً مع عراق قوي مستقل ومعافى. 

التيار الصدري كان موجوداً في صلب العملية السياسية ومشاركا فيها ويتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية فشلها وتدهورها لكنه حاول في الظاهر إعلامياً في الآونة الأخيرة، تغيير خطابه وركوب موجة الاحتجاجات وتبني مطالب المحتجين والمتظاهرين واحتواء حركة المجتمع المدني بترديد نفس الشعارات كمحاربة الفساد وإنهاء نظام المحاصصة والدولة لحكومة مدنية والحد من نفوذ الإسلام السياسي المتسلط على مقدرات البلاد والسارق لثرواته. ولكن ما أن انتهت مسرحية الانتخابات وفاز التيار الصدري تحت لافتة " تحالف سائرون" بأغلبية طفيفة " 54" مقعداً برلمانياً لا أكثر، هاهو يضرب عرض الحائط برنامجه الانتخابي الذي وضعه بالاتفاق مع الحزب الشيوعي وبعض القوى المدنية الصغيرة الأخرى في التحالف، وبدأ يناور، ويخضع لإملاءات إيران ويحترم خطوطها الحمراء، ويتباحث في أمر تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر التي ستشكل الحكومة القادمة، وتحول زعيم سائرون مقتدى الصدر إلى صانع الملوك وصاحب الكلمة الفصل في تحديد مصير النظام القادم وإسم رئيس مجلس الوزراء القادم ولكن عليه أن يقدم التنازلات المطلوبة منه وإلا ستكون نهايته عنيفة ولقد تلقى الرسالة بوضوح من خلال تفجير مخازن الأسلحة التي كدسها تنظيمه المسلح " سرايا السلام" في مدينة الصدر ومما لاشك فيه أن خصومه هم من قاموا بتفجيرها لإحراجه وتبليغه الرسالة. فما كان من سوى ابتلاع الحبة المرة وقبوله بالتفاوض مع تحالف" فتح" الإيراني الهوى والذي يضم خصمه المنشق عنه قيس الخزعلي رئيس " عصائب أهل الحق" التي وصفها مقتدى الصدر بالميليشيات الوقحة، وهذا يعني أن هناك تفاهم ممكن بين الميليشيات المؤدبة والميليشيات الوقحة تحت راية إيران وتحالف الفتح الذي يقوده هادي العامري رئيس منظمة " بدر" التي أسستها إيران في طهران أيام الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينات القرن الماضي. كما تقبل الصدر أن يتحالف مع باقي الحيتان ممثلة بتيار الحكمة الذي يقوده عمار الحكيم وتحالف النصر الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي ويضم الكثير من الفاسدين، ولائحة الوطنية التي يقوده اياد علاوي، وربما سيقبل على مضض أن يتحالف مع تحالف دولة القانون برئاسة رئيس الوزراء السابق وخصمه اللدود نوري المالكي كما تشير الأخبار والمعلومات الإعلامية المتواردة باستمرار حول هذا الموضوع. فكيف سيقوم التيار الصدري بتحقيق الإصلاحات ومحاربة ومحاسبة الفساد والفاسدين ومنهم هؤلاء الفاسدين ؟ أليس هم أنفسهم بأسمائهم الصريحة وشحمهم ولحمهم، المتواجدين حالياً ضمن تركيبة وطبخة الحكومة القادمة، حكومة " الفضاء الوطني الأبوية؟" إن هذه الديموقراطية الهجينة التي ابتدعها الأمريكيون ووضعوا لها القوانين والدستور لا مثيل لها في العالم، فهي عراقية محض ولا توجد إلا في العراق، يكفي أن نلقي نظرة فاحصة على مفوضية الانتخابات وتركيبتها الطائفية وقانون الانتخابات الغريب والعجيب والدستور الغامض والقابل للتأويل كل حسب مبتغاه، لذا فهي ديموقراطية إسمية لا أكثر، أنتجت برلمان وضيع لا يهتم سوى بمصالح وامتيازاته وسرقاته وصفقاته وقومسيوناته الهائلة، ويسكت عن كل الخروقات والانتهاكات والسرقات لأنه جزء منها ويضفي عليها الشرعية اللازمة. العراق اليوم أمام مفترق طرق. فإما أن يلغي نتائج الانتخابات المزورة ويعرض البلاد لإعصار مدمر سوف يأكل الأخضر واليابس لأن القوى الفائزة في الانتخابات لن تقبل بسهولة أن تحرم من انتصارها وآفاقه الاقتصادية والسلطوية، أو إعادة العد والفرز بالطريقة اليدوية وهذا بات شبه محال بسبب حرق صناديق الاقتراع ووثائقها، أو القبول بالأمر الواقع رغم التزوير الذي يزكم الأنوف، وحياكة توافقات جديدة وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه حالها، وحياكة صيغة " محاصصاتية" قديمة – جديدة" بصياغة وتسمية ملطفة ليس إلا.