هل تم الإنتصار على الدولة الإسلامية في العراق والشام " داعش" حقاً وسحقها نهائياً؟ الجواب ليس بهذه البديهية الظاهرة والتي اقتنع بها كثيرون. فسقوط عاصمتي داعش السياسية والإدارية، الموصل في تموز 2017، والرقة في أكتوبر 2017، وفقدان أغلب الأراضي التي كان يسيطر عليها هذا التنظيم الإرهابي تحت مسمى دولة الخلافة المزعومة، هو الذي خلق الانطباع بأن داعش اندحرت تماماً، والحال أن قيادات داعش توقعوا هذه الهزيمة العسكرية واستعدوا لها منذ حوالي عامين بإعدادهم للبديل عن السيطرة على الأراضي والمدن وإدارتها على نحو علني ومباشر،واستبدال وجودهم العلني بوجود ونشاط سري وشن حرب عصابات سرية والاعتماد على الأفراد " الذئاب المنفردة" و " الخلايا النائمة " والفلول المنتشرة هنا وهناك، وأعادت تنظيم نفسها على شكل حلقات صغيرة بعدد محدود من الأفراد لشن هجمات محدودة ــ اغتيالات وتفجيرات موقعية ومحلية وزرع ألغام وعبوات ناسفة وعمليات انتحارية فردية ونصب سيطرات وهمية وكمائن لدوريات عسكرية ضد القوات الأمنية العراقية والسورية الخ .. بعبارة أخرى التحول إلى أسلوب التمرد العسكري المسلح السري، ونظرا لتعقيد الوضع في سوريا وكثرة الجهات المتقاتلة والمتنازعة على الساحة السورية، ــ أمريكا وروسيا وإيران وتركيا والسعودية وقطر والعراق ، وداعش والقاعدة والجيش الحر السوري وقوات سورية الديموقراطية ذات الغالبية الكوردية، وبالطبع القوات النظامية السورية الموالية لبشار الأسد ــ استغلت داعش هذا الوضع المتداخل والشديد التعقيد للحفاظ على ملاذات أرضية متوزعة هنا وهناك ماتزال تحت سيطرتها لا سيما في المناطق المحصورة بين الحدود العراقية والسورية ، والانطلاق منها لشن غارات مباغتة وهجمات من نوع حرب العصابات في العراق مستغلة الظرف السياسي المتأزم في هذا البلد خاصة بعد الانتخابات التشريعية وما نجمت عنه من تجاذبات وتوترات واتهامات متبادلة وتزوير وتدخلات إقليمية ودولية في الشأن العراقي الداخلي مما مهد لعودة التنافرات وانعدام الثقة بين أطراف العملية السياسية ما يعني تهيئة الأرضية لإيواء العناصر والفلول المتبقية من داعش ، خاصة من عناصرها العراقية ومنتسبيها من أصل عراقي، إذ أن العناصر العربية والأجنبية تكون، إما قتلت أو أعتقلت أو هربت وعادت إلى بلدانها الصلية أو انتقلت إلى أماكن أخرى خارج العراق حسب معلومات من مجموعة سوفان Soufan Group و غلوبال ستراتيجي نتورك The Global Strategy Networkحيث قدر عدد العائدين من الإرهابيين الأجانب بــ 5600 إرهابي،. فالعناصرالإرهابية العراقية يمكن استخدامها كأداة ضغط وتهديد لتحقيق مكاسب سياسية ونفوذ وعائدات مالية من قبل العديد من الكتل السياسية التي يمكن أن توفر لها الحماية والتغطية العشائرية والطائفية، كل حسب أسلوبه وعلاقاته . ففي سورية نجحت بقايا داعش بالاحتفاظ بمناطق نفوذ بعد أن فشلت قوات سوريا الديموقراطية في استئصال داعش وتطهير المناطق التي كانت تسيطر عليها في الشرق السوري لا سيما الجيوب الموجودة شمال نهر الفرات في مناطق هجين والشفاء وما تزال داعش تسيطر على الشريط الحدودي الفاصل بين العراق وسوريا . قامت قوات الحماية الكوردية بحماية نفسها من هجمات الداعشيين وحاولت تعزيز مواقعها في عفرين ضد التهديدات التركية بالتعاون مع بعض الجماعات السورية المسلحة المتمردة على النظام لكنهم لم يتمكنوا لحد الآن من إخراج داعش من مناطق كثيرة مازالت تتمسك بها وتديرها عسكرياً وإدارياً خارج نطاق أي نفوذ آخر وذلك لغياب الغطاء الجوي الفعال الذي ينبغي أن توفره قوات التحالف الدولية على غرار ما حصل في العراق إذ بدون ذلك يستحيل على القوات المحاربة لداعش أن تحقق انتصاراً ملموساً على الأرض. ولإنشغال القوات النظامية السورية بعمليات تطهير الغوطة بالقرب من دمشق التي تشكل منطقة تهديد ذات أولوية بالنسبة للنظام السوري بعد تحريره لألبوكمال في نوفمبر 2017 استعدت أفضل الوحدات القتالية في الجيش السوري لشن هجمات على أدلب لغاية شهر يناير كانون الثاني 2018. لذا لا تزال داعش تناور في بعض المناطق المحاذية لألبوكمال والميادين وفي الغرب في المنطقة الصحراوية لمدينة دير الزور حيث تمارس ضغوطاً على طرق الاتصالات ومنشآت الجيش السوري النظامي.بل إن داعش كانت موجودة حتى في قلب دمشق من خلال نفوذها داخل مخيم اليرموك الفلسطيني الذي تم تحريره قبل بضعة أسابيع. ولقد استغلت داعش عملية إجلاء المقاتلين المناوئين للنظام السوري من تنظيمات أخرى من " القدم" إلى " أدلب" للتغلغل إلى المنطقة ومهاجمة القوات السورية وتدمير دبابة من طراز ت 72 وقتل أكثر من مائة جندي وضابط ، الأمر الذي أخفته السلطات السورية وتجاهلته إعلامياً بينما نشرت داعش أشرطة مصورة عن إنجازها العسكري هذا وسيطرتها على هذا الحي وقامت بإعدام سجناء اتهمتهم بأنهم جواسيس للنظام وتنفيذ عقوبات كقطع يد السراق الخ .. تجدر الإشارة إلى أن جيش خالد إبن الوليد ، التابع والمبايع لداعش، كان يسيطر على جزء كبير من مخيم اليرموك لغاية تاريخ تحريره واجتياح القوات السورية للمخيم وتقديم تضحيات كبيرة في الأرواح والمعدات. أما في العراق ، وبالرغم من الإعلان الحماسي للسلطات العراقية بدحر داعش إلا أن هذه الأخيرة ما تزال تسيطر مناطق في محافظة ديالى الواقعة شمال شرق العاصمة بغداد وبعض المناطق الواقعة غرب محافظة الأنبار بالقرب من الحدود العراقية السورية وفي الممر بين الرمادي والفلوجة لغاية العامرية وهو الممر الذي أتاح لها التسلل للسيطرة على منطقة جرف الصخر في محافظة بابل قبل تحريرها على يد قوات الحشد الشعبي في نهاية عام 2014 بعد أن أفرغت من سكانها قبل المواجهة الكبرى التي تمثلت بمعركة تحرير الموصل سنة 2017. ما تزال فلول داعش الإرهابية متحصنة في جبال حمرين في المغارات والأنفاق التي حفروها هناك . ومنذ نوفمبر 2017 ظهرت جماعات إرهابية مسلحة أطلق عليها تسمية " أصحاب الرايات البيضاء حيث يبدو على أعلامها رأس أسد على خلفية بيضاء عكس الراية الرسمية لداعش السوداء وعليها شعار الله رسول محمد، ولقد قدمت هذه الجماعات على أنها مقاومة كوردية غير نظامية منفلتة ضد الحكومة المركزية ، أي ليست جزءاً من البيشمركة النظامية الكوردية، تنشط ضد القوات النظامية العراقية والحشد الشعبي الذين استعادوا كركوك الكوردية وطوز خورماتو في محافظة صلاح الدين بالقوة ، مما استدعى مواجهاتها بالقوة المسلحة وبالمقاومة تحت مسمى الرايات البيض والحقيقة أن أغلبية هؤلاء هم من جماعة أنصار الإسلام التكفيرية المتشددة الموالية والمبايعة لداعش حيث التحق بهم العديد من الفارين أو الناجين من فلول داعش بعد هزيمتهم ميدانياً في الموصل، وأدعى البعض أنهم بنتمون إلى تنظيم الــ PJAK وهو فرع وامتداد لتنظيم حزب العمال الكوردستاني التركي الــ PKK، الذي يحارب ضد تركيا وإيران ويتواجد على الأراضي العراقية أيضاً ، ويتعاونون مع عصابات مافيوية ومهربين . فمنذ نوفمبر 2017 ضاعفت فلول داعش من هجماتها الإرهابية على الطرقات والقرى المنعزلة ومعسكرات الحشد الشعبي من خلال خلاياها النائمة وعناصرها الناجية من المجابهات العسكرية في الموصل وغيرها من المناطق التي كانت تحت سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش وخسرتها بعد تحريرها على يد القوات العراقية والحشد الشعبي وبالأخص في مدينة كركوك وضواحيها وشن هجمات في الرطبة والقائم وفي ديالى في بعقوبة وفي صلاح الدين وتكريت ضد قوات الشرطة وقوات الأمن والحشد الشعبي من خلال نصب الكمائن والسيطرات الوهمية والقناصين والسيارات المفخخة والهجمات الصاروخية والعلميات الانتحارية بغية إرهاب السلطات الحكومية المحلية واستعادة السيطرة على بعض المناطق الريفية النائية التي تكون فيها القوى الأمنية العراقية ضعيفة أو غائبة، وذلك لتشكيل مناطق نفوذ وإيواء ونقاط انطلاق لعمليات في مناطق أخرى تحت سيطرة السلطات العراقية الشرعية ، وهذا يعني أن داعش لم تمت ولم تستأصل نهائياً في العراق وسوريا بل كيفت تكتيكها القتالي وغيرت من طريقة صراعها مع السلطات العراقية والسورية من خلال انتهاجها أسلوب حرب العصابات وحرب المدن والعمليات الإرهابية السرية المخطط لها في السر وهو النهج الذي كانت تسير عليه منظمة القاعدة الإرهابية بقيادة المقبور أبو مصعب الزرقاوي قبل نشوء داعش. وإزاء هذا الواقع الجديد والتحدي الذي يواجه السلطات العراقية قامت هذه الأخيرة بشن حملات أمنية واسعة منذ بضعة أيام، ونجحت في تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابية والعثور على مستودعات أسلحة وعبوات تعود لداعش وإلقاء القبض على مطلوبين ومشتبه بهم بناءً على دلالة المواطنين، فالأمن والاستقرار ليس من اختصاص الحكومة والقوات العراقية الأمنية وحدها بل هو شأن يمس المواطن نفسه الذي يتعين عليه أن يتعاون مع القوى الأمنية ، وعلى هذه الأخيرة أن تعزز الثقة مع المواطنين ووتعاون معهم بغية حمايتهم من خطر داعش الإرهابية كما يقول الباحث الاستراتجي والمتخصص بداعش والجماعات الإرهابية الدكتور هشام الهاشمي