ليست هناك نظريات سياسية وإدارية جاهزة لإدارة الدولة بدون اخذ بعض الخصوصيات التاريخية والمجتمعية والثقافية للدول، بنظر الإعتبار. ومن بداهة القول أن ثمة فرادة جزئية، أو نسبية تتميز بها أحوال الدول والمجتمعات، وتجعلها متمسكة بخصوصياتها النسبية، فضلاً عن توجيهها الواعي لمطامح مقارنة الذات بالآخر،والإفادة من تجارب الدول الأخرى والمراحل التاريخية التي مرت بها والتحديات التي واجهتها.

هذه الفرادة والتميز، لا تعنيان، دون أدنى شك، تعطيل التطلعات أوالإنفتاح على الآخرين بذريعة الخصوصية. فإذا كُنا ننتقد دوماً، على الصعيد الفكري والفلسفي، دعاة الأصالة بسبب وصولهم لحد الإنغلاق وتجميد الذات، فلا يمكن ان ندعم أيضاً أية عقليات سياسية وإدارية تدير الدولة بمفاهيم قروسطية بالية، أو من خلال نظريات ثقافوية تُنبذ كا ما هو جديد ومنتمٍ لعالم الحداثة (Modernity).

ولا يمكن أيضاً أن تصمد اليوم أي دولة، مهما كانت، أمام حركة التاريخ بعقليات متأخرة، فالعالم، كما هو ظاهر للعيان، لاسيما في عصرنا المعلومي هذا، والذي تتحكم به الثورات العلمية والتكنولوجية والإتصالاتية ويتمظهر في طغيان العولمة Globalization بأبعادها السياسية والإقتصادية والثقافية والإعلامية، تغير اليوم كثيراً، ولم يعد بالإمكان وضع أية حواجز فولاذية قائمة على الآيديولوجيات الخانقة، أو العقائد المتزمة، وبالتالي الإنغلاق بوجه المنجزات العالمية والأفكار والنظريات المتطورة في كل الحقول، أو تحديالأسواق والأموال المُعولمة، أو الثقافات والحضارات العابرة للقارات..!

ولايمكن مقاومة كل ذلك بخطاب"الغزو الثقافي" أيضاً، الذي أصبح عبئاً على الفكر والعمل والمبادرة، بل لا يمثل سوى التخلف عن العصر والحياة المعاصرة، فما بالك في بلد يدعي أنه مهد للحضارة الإنسانية وأرض الأنبياء، الذين نعلم أن معظمهم كانو ذو رؤى عالمية طموحة ومنفتحة، توخت حياة أفضل للإنسانية وإرساء قيم الحرية والعدالة والأخاء والسلم ومواجه الظلم والإستبداد والعبودية.

وبهذا المعنى، لا معنى لأن تُدار الدولة اليوم أيضاً بطريقة متخلفة طالما لاتتفق و روح العصر والرأسمال التاريخي للبلد، وحتى إذا إنعدمت نظريات جاهزة وقابلة للتعميم في إدارة البلدان، فلا يعني هذا أن تتأثر الدول بالتجارب التي تقوم على خطاب الخصوصية، لاسيما الخصوصية الدينية والثقافية، التي هي، في النهاية،شأن مجتمعي وفردي، لا يمت بالأسس العلمية لإدارة الدولة الحديثة، بصلة، ولايخدم أي نخبة سياسية وإدارية في تحقيق مشاريع وتطلعات أستراتيجية، والحديث هنا طبعاً هو عن العراق والدولة العراقية، التي هي اليوم في دوامة تاريخية خطيرة، وعليها أن تُراجع فلسفته في إدارة الدولة مراجعة كُلية وشاملة، لحد الوصول الى تعديل حتى بعض من المواد الدستورية، وكذلك رصد كل الإخفاقات الإدارية والسياسية التي تتعلق بطغيان العقليات الدينية والطائفية والقومية والجهوية، لاسيما الممارسات التي دمرتكل البنى الحديثة للدولة، والتي تقوم- كما نعي ذلك جميعاً دون أن نطبقها !- على مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وسيادة القانون والحريات السياسية والمجتمعية.

بمعنى آخر، ان العراق، بلد غني في مجالات شتى، ولا ينقصه شيء سوى الحد من فلسفته العقيمة الحالية في إدارة الدولة، والخروج من صمتها أمام غطرسة خطابات وممارسات طائفية وقومية وحزبية في البلاد، لم تكن أبداً وما تزال سوى جرثومة خبيثة في جسد وروح الدولة العراقية وستبقى كذلك طبعاً ! طالما افتقرت هذه الأخيرة للمناعة اللازمة، وقلبت أمام أعين الشعب والعالم باستمرار الفساد السياسي والإداري والأخلاقي، الناتج عن غياب المُحاسبة وفقدان الدولة لسلطانها وإتزانها أمام هذه الظواهرالمزرية التي تعيشها البلاد.

نعم، ينبغي الأبتعاد الفكري والذهني أولاً عما هو سائد ومتموضع كحالة (طبيعية!) في روح الدولة العراقية، ومن ثم الشروع في مواجهة النخب الفاسدة عملياً، وذلك من خلال إتخاذ أجراءآت قانونية تُعبر عن علو سلطة القانون على الجميع واولوية سلطان الدولة ومؤسساتها، ورفض هيمنة الأحزاب والطوائف والمذاهب على مقدرات البلاد والعباد.

وعلى رأس قائمة الإجراءآت الآنية والضرورية اليوم، هو الإسراع في محاكمة الفاسدين والمتعبثين في أموال البلد وخيراته، وإستبعاد النخب غير الكفوئة في مرافق الدولة وأجهزتها المختلفة، وتدعيم المؤسسات الرقابية وهيئات المحاسبة والمسائلة والمعنيين بضمان النزاهة الإدارية والسياسية في إدارة الدولة والمجتمع.

كما وإعادة الإعتبار الى الشخصيات التكنوقرطية المستقلة في البلاد، أو الذين من أصحاب العقول، غير أنهم تركوا العراق لأسباب أمنية ومعيشة، وكذلك التخطيط للإستعانة بخبرات الدول الأخرى المتقدمة، بل حتى ممارسة التقليد المثمر والناجع أيضاً لأيةمشاريع استراتيجية ونهضوية ناحجة للدول التي شهدت الحروب ولكنها سرعان ما نهضت من جديد وبصورة أفضل من الماضي، هذا فضلاً عن ضرورة تمويل المشاريع الخاصة بالتنمية البشرية، وأمور أخرى كثيرة لا تُعد ولا تحصى..

بأختصار شديد، العراق، بحاجة الى العافية والخلاص من الحروب والخراب والفتن والفساد، أنه وبحق يستحق أن يعود الى دوره الريادي في المنطقة وأن يُحدث قطيعة سياسية وإدارية وثقافية وإجتماعية مع كل ما تسبب في تعطيل وشل قدراته الأقتصادية وأستثمار ثرواته الطبيعية ورأسماله الإنساني، الذي أفقرته الحروب والأرهاب والفتن الطائفية والعرقية والمذهية. العراق جدير بأن يكون "دولة قوية" بالمعنى العريض للكلمة، ولكننا نعلم تماماً أن ذلك عسير المنال بل من سابع المستحيلات إذا ما لم تُبادر الدولة بنفسهاوالنُخب المسؤولة عن البلد بترسيخ مقومات الدولة الحديثة: دولة الحريات، وسلطة القانون، والمواطنة وحقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية.

[email protected]